هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية، بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
سجلت فى هذا المكان قبل أيام ملاحظاتى عن زيارة الرئيس الصينى «شي» للولايات المتحدة، كنت قد أبديت اهتماما بهذه الزيارة الى حد لفت انتباه أصدقاء كثيرين. أما مبررات هذا الاهتمام فهى فى مجملها تلك الملاحظات التى أوردت بعضا منها فى مقال سابق.
***
كتبت عن الرئيس الصينى الذي ذهب إلى أمريكا وفى يده ولأول مرة "أوراق ــ موقف" position papers تتعلق بأهداف السياسة الخارجية الصينية فى الأمم المتحدة وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. جاءت هذه الأوراق إضافة إلى رؤى صارت واضحة لمستقبل علاقات الصين بالولايات المتحدة وبالغرب عموما. بمعنى آخر، ذهبت الصين إلى أمريكا هذه المرة لتقول بأعلى صوت ممكن و عبارات بالغة الوضوح أنها صارت جاهزة لتتعامل بإيجابية مع المسئوليات التي ستلقى عليها باعتبارها أحدث الدول العظمى. كتبت أيضا عن هيمنة نظرية "الثنائية الاستراتيجية " على كتابات الباحثين والمعلقين الأمريكيين. كان واضحا خلال الزيارة، وقبلها، ان القيادة الدولية، فى نظر هؤلاء، سوف تستقر قريبا فى شكل قطبية ثنائية جديدة رغم أن روسيا تبذل جهدا خارقا في الداخل والخارج ، والآن في سوريا والشرق الأوسط وشرق أوروبا لتجعل القيادة أقرب إلى التعددية القطبية، أو فى أحسن الأحوال ثنائية مختلطة بقدر لا بأس به من تعددية تشارك فيها روسيا مع دول أخرى فى مجموعة البريكس ومع ألمانيا منفردة أو ألمانيا تقود الاتحاد الأوروبى.
***
في مقال اليوم أضيف ملاحظات أخرى استكمل بها مبررات اهتمامى بهذه الزيارة التى دشنت، فى رأيى، مكانة الصين فى النظام الدولى. فقد لفت نظرى على سبيل المثال، ونظر آخرين بطبيعة الحال، هذا الزخم من نشاط رجال الأعمال الصينيين خلال الزيارة وقبلها. أعرف، ويعرف كثيرون ان رجال المال والأعمال يلعبون منذ سنوات دورا رئيسا فى اقتصادات وسياسات دول عديدة، بل وفى النظام الدولى وعديد النظم الإقليمية. يعرفه من راقب عن قرب تطورات الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت معاقل مهمة في الاقتصاد العالمي ، ويعرفه من راقب تفاصيل الأزمة اليونانية وشبكة تعقيدات الحلول والبدائل التي تصدت للحل وضغطت على السيدة ميركل. يعرفه أيضا كل من حاول فهم المعضلة الأهم في علاقات النظام الحاكم بالمجتمع العميق في مصر.
لم يكن مفاجئا لى الطلب الصينى ان تسبق زيارة الرئيس لواشنطن العاصمة زيارة أطول إلى واشنطن الولاية. هناك فى هذه الولاية النائية يوجد أحد أهم قلاع قطاع الأعمال في أمريكا. ذهب الرئيس شي الى سياتل ليجتمع مع رؤساء أهم الشركات فى العالم مثل ميكروسوفت وآبل والشركة المنتجة لطائرات بوينج، وهذه جارى التفاوض معها على نقل الجانب الأكبر من إنتاجها إلى الصين. المهم فى هذه الزيارة الجانبية أو لعلها الزيارة الرئيسة ان مخططيها والمستفيدين منها كانوا من جماعة رجال الأعمال الصينيين. لم يعد خافيا، وبخاصة خلال الزيارة وبعدها، ان دور رجال الأعمال الصينين فى التأثير على السياسة الخارجية الصينية تجاوز الخط الأحمر فى نظام عمل الحزب الشيوعى الصينى وقواعد الحكم فى بكين. السؤال الذى يستحق من الباحثين الصينيين خاصة الاهتمام بالاجابة عنه ويستحق منا انتظار هذه الاجابة ، هو المدى الذى وصل إليه نفوذ هذه الجماعة فى عملية صنع السياسة الخارجية للصين، خاصة وان بعضنا يعرف ان هذه الجماعة لم تحصل بعد على حقها في التمثيل اللائق فى المكتب السياسى أو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. الأمر المؤكد بالنسبة لكافة الساعين لفهم حقيقي لتطور النظام الصيني هو الحاجة إلى التدقيق فى الأساليب التى تستخدمها هذه الجماعة، من خارج أجهزة الحزب، فى تنفيذ أهدافها ومصالحها. جدير بنا أن نسعى لفهم طبيعة العلاقات التي تربط بين الشركات العملاقة الصينية وقريناتها في أمريكا. لا يكفي أن نكتشف بين الحين والآخر أن كل الشركات الصينية تتجسس على الشركات الأمريكية والعكس صحيح. أعتقد أن شبكة علاقات التعاون والتأثير المتبادل على السياسيين أقوى بكثير من كل ما يقال عن عمليات قرصنة سيبرناطيقية.
***
لاحظنا كذلك خلال الزيارة الرسمية والمفاوضات الدبلوماسية غيابا لافتا لموضوعين أساسيين، أحدهما داخلى وعلاقته بالسياسة الخارجية تبقى غير مباشرة ، والآخر خارجي وله علاقة مباشرة بمستقبل السياسة الخارجية. دفعتنا المشروعات والخطط الاستثمارية والتجارية التى نفذتها الصين في الخارج أو أعلنت عن قرب تنفيذها إلى التفكير فى حدود قدرة الصين على توفير العدد الكافى من المواطنين فى سن العمل لتنفيذ هذه المشروعات الخارجية كثيفة العمالة. مرة أخرى نكتشف ما لم يكن ممكنا قبل أربعين أو خمسين عاما تصور حدوثه في المستقبل وهو ان الصين يمكن أن " تشيخ" بسرعة، بمعنى أنها صارت تفتقر إلى العدد الكافى من الشبان فى سن العمل والإنتاج . تزداد أهمية هذا الاكتشاف من نواحى دفاعية واستراتيجية عند مقارنة الصين بالهند، أمة تسير بخطى سريعة نحو الشيخوخة وأمة تزداد شبابا، بكل ما تحمله المقارنة من معان واحتمالات وانعكاسات اجتماعية وسياسية.
***
أما الموضوع الخارجى فهو موقع الشرق الأوسط فى سلم اهتمامات «الامبراطورية الناشئة»، نبالغ إذا قلنا ان الشرق الأوسط يكاد لا يظهر على أى من خرائط الدفاع والأمن فى الصين. اسمع من محللين ومراقبين أجانب أن الصينيين عجزوا عن فهم ما يحدث فى الشرق الأوسط. قيل لي إنهم لم يتوصلوا بعد إلى صيغة تعامل دبلوماسى وأمنى بل وتنموى واستثمارى مع المسئولين فى دول الشرق الأوسط. هناك بدون شك جهل متبادل للثقافتين الحاكمتين ببعضهما البعض ، فضلا عن وجود سمعة غير طيبة فى الصين عن الطبيعة الخاصة للشخصية السياسية شرق الأوسطية عموما والعربية بوجه خاص. الأمر كما هو واضح لدى بعض المتابعين لتطور ذهنية السياسات الخارجية العربية لا يخرج بعيدا عن الالتزام بقاعدة التمسك بما هو قائم والنأى بالنفس عن علاقة بقوة دولية جديدة بثقافة مختلفة ونوايا قوية عن المستقبل. الصين، حسب هذه القاعدة، ليست جزءا من الواقع القائم في الذهنية التي تصنع السياسات الخارجية العربية ، وهى فى الوقت نفسه مشروعا مستقبليا يحسن عدم الانشغال به، وجدير بنا الا ننسى أن الذهنية السياسية الحاكمة في معظم أقطار الوطن العربي تتمسك بالحاضر حاضرا ومستقبلا، ولا ترتاح إلى البدائل المستقبلية. لا ننسى أيضا أن الصين تقدم نفسها للعرب كما لغيرهم كمشروع مستقبلي.
***
الصين معذورة ان هي وجدت صعوبة فى فهم الشرق الأوسط، معذور أيضا كل دبلوماسى أو مفكر عربى يحاول مساعدة الصين على فهم الحال الراهنة في الشرق الأوسط.