هذا المقال بقلم شمس الدين النقاز، والآراء الواردة أدناه لا تعكس بالضرورة وجهة رأي CNN.
ركن كثيرون للنوم، واختار آخرون السهر ليلة الجمعة 13 نوفمبر 2015 لمتابعة تطورات الأحداث الدامية التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس بعد استهداف ست مناطق سياحية بهجمات متزامنة خلفت مئات القتلى والجرحى وذكّرت العالم بأحداث مماثلة عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية يوم الثلاثاء 11 من شهر سبتمبر 2001 عندما قام جهاديّون موالون للقاعدة باختطاف 4 طائرات مدنية مليئة بالركاب وتغيير مسارها مستهدفين باثنتين منها برجي مركز التجارة العالمي وبأخرى مبنى وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون في حين أسقط الجيش الأمريكي الرابعة قبل أن تصل الى هدفها المحدد.
لقد حطمت تلك الهجمات الإرهابية التي هزت العالم بأسره وضربت الدولة العظمى الحاكمة في العالم في عقر دارها وقتها، صنميّة عدة نظريات سياسية ودراسات استشرافية عن طبيعة الصراع القادم في العالم بعد انهيار الإتحاد السوفيتي وسيطرة القطب الواحد المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية، بل أسقطت الطائرة الأولى التي استهدفت أحد برجي التجارة أطروحات عدد من رموز العلوم السياسية والعلاقات الدولية التي كان يشار اليها بالبنان قبل تمام الساعة 13.00 بتوقيت غرينتش.
أثناء حدوث هجمات الحادي عشر من سبتمبر لم يكن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في البيت الأبيض، بل كان في مدرسة "ايما اي بوكر" الابتدائية أثناء رحلته إلى فلوريدا لدعم قطاع التعليم، وعند اصطدام الطائرة الأولى بالبرج الشمالي قام كبير موظفي البيت الأبيض "أندرو كارد" بالهمس في أذن الرئيس بينما كان جالسا مع تلاميذ الصف الثاني لكن وفي الثانية غادر بوش الصف ثم ظهر بعد فترة قصيرة في مكتبة المدرسة شاحب الوجه والخوف باد عليه ليقول "اليوم لدينا مأساة وطنية.اصطدمت طائرتان بمركز التجارة العالمي في هجوم إرهابي فيما يبدو على بلادنا".
كان الخطاب الأول لبوش الإبن بعد الكارثة بدقائق مجرد إعلان عن امكانية أن تكون الحادثة هجوما ارهابيا استنادا على بعض المعلومات التي سربها إليه جهاز أمنه السري، ولكن وبعد ساعات من الخطاب الأول وتحديدا مع تمام الساعة 00.35 بتوقيت غرينتش يوم 12 سبتمبر/ أيلول ظهر الرئيس الأمريكي يتحدث في كلمة متلفزة إلى الأميركيين عن وقوع آلاف القتلى، معلنا أن الولايات المتحدة تتعرض لهجمات ارهابية وأن الرد القادم لن يميز بين "الإرهابيين والذين يحمونهم".
لا نعلم ان كان الأمر صدفة ومجرد تخمينات من كاتب هذا المقال لكننا تفاجأنا أثناء بحثنا في الموضوع ومراقبتنا للتطورات والمستجدات الحادثة أن ما حدث أثناء إعلام الرئيس الفرنسي بسبب الانفجار الأول والطريقة التي تم بها الانصراف الهادئ من قبله لكي لا يحدث بلبلة وفزعا داخل المدرجات وتوجهه الى مكان سري في الملعب للإطلاع على تفاصيل الهجمات الدامية التي شهدتها عاصمة الأنوار بالإضافة إلى الخطابين اللذين ألقاهما هولاند في أقل من 12 ساعة معلنا في الأول عن الهجمات والإجراءات العاجلة وفي الثاني عن الجهة والحرب التي تتعرض لها فرنسا ومتوعدا الجهة الضالعة وراء هذه الأحداث الأخيرة يعيد إلى الأذهان سيناريو 11 من سبتمبر، وقد شابه هولاند بوش فما ظلم عندما كرر ما قاله الرئيس الأمريكي في خطابه الثاني عن الكارثة وقتها وقال فرانسوا هولاند في قصر الإليزيه إثر خروجه من اجتماع لمجلس الدفاع بمشاركة الوزراء الرئيسيين في حكومته إن "ما حصل أمس هو عمل حربي .. ارتكبه داعش ودبر من الخارج بتواطؤ داخلي على التحقيق اثباتها مؤكدا على أن فرنسا لن ترحم المتواطئين في هذه العملية داخليا وخارجيا".
كانت الهجمات الدامية المتزامنة في مناطق متفرقة من العاصمة باريس والتي سقط جراءها مئات القتلى والجرحى بينهم 80 إصابتهم خطيرة في ستة مواقع منها مطعم "باريس لو بيتيت كامبوديا" على مفترق طرق رو بيشات ورو آلبيرت، ومسرح باتاكلان على مفترق رو فونتاين وزوي بالإضافة إلى "لابيلا" بمفترق طرق رو دي شارون وجادة ريبابليك حسب ما أعلن عنه المدعي العام الفرنسي فرانسوا مولينز،استباحا كليّا للدائرة العاشرة والحادية عشرة ولضاحية سان دوني في العاصمة الفرنسية.
إن العقل ليعجز عن تصديق ما حدث، فكيف لعاصمة الأنوار التي تضرب بها الأمثال في الأمن والأمان والقبلة الأولى للسياح في العالم أن تعجز عن كشف مخطط متزامن ضرب مربعا سياحيا أمنيا في دقائق معدودة بل وتنوعت طرق القتل التي استعملها المهاجمون مستخدمين الأحزمة الناسفة والرشاشات، ففي مسرح "باتاكلان" الذي تحول إلى برك من الدماء، توقفت سيارة أمامه ثم دخل 3 مهاجمون "ملتحفين بأحزمة ناسفة" وفي أيديهم أسلحة رشاشة أطلقوا نيرانها عشوائيا باتجاه الحشود الحاضرة أثناء حفل لفريق "إيغلز أوف ديث ميتال" لأغاني الروك، فيقتلون نحو 89 شخصا ويصيبون آخرين بجروح في الحفلة التي ينتظرها عشاق موسيقى الميتال الصاخبة من الباريسيين اللذين كانوا متشوقين للاستمتاع بعروض "نسور الموت" الفرقة الأميركية القادمة من كاليفورنيا والشهيرة بموسيقاها وأغانيها الصاخبة دون أن يدري هؤلاء الباريسيون أن مسرح "باتاكلان" الذي أواهم كان واحدا من أصل ستة مواقع استهدفها نسور موت حقيقيّون في ليلة كانت أعلى صخبا من الموسيقى الشهيرة.
لقد تحدثت بعض الأوساط الاعلامية الأمريكية والبريطانية والفرنسية عن كارثة 11 سبتمبر جديد بنكهة باريسية كُتبت تفاصيلها هذه المرة برّا لا جوّا، فقد استهدف المهاجمون مناطق سياحية تقليدية في باريس في هجمات غير مسبوقة في تاريخ فرنسا، فمسرح "باتاكلان" القريب من مكاتب مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة، التي تعرضت إلى هجوم دموي في مطلع العام الحالي لم يكن بالمكان العادي الذي سهل على المهاجمين اختراق سياجه والدخول اليه والقيام بتصفية كل من اعترضهم بداخله ثم القيام بتفجير أنفسهم.
العملية الأخيرة توحي بأن نقلة كبيرة حدثت فعلا في عمليات "الدولة الإسلامية" في طريقة التخطيط وفي عملية التنفيذ في أرجاء باريس التي شهدت يوم الحادثة اجراءات أمنية مشددة في محيط ملعب المباراة ومناطق حيوية أخرى تحسبا لأي هجمات إرهابية خاصة بعد أن تلقت السلطات الفرنسية قبل يوم من المباراة انذارا بوجود قنبلة في مقر اقامة المنتخب الألماني مما دفع كل الوفد إلى الخروج من أحد فنادق الدائرة 17 في باريس وتغيير مكان الاقامة.
عام 2001 اعتبر أنصار تنظيم القاعدة في تلك الفترة الهجمات على أمريكا ردا شرعيا على سياساتها في المنطقة وضد المسلمين في كل من العراق والصومال وفلسطين و...، وفي 2015 برّر أنصار تنظيم الدولة هجمات باريس بسبب سياسة فرنسا الإستعمارية في المنطقة والتي كان آخرها قصف مناطق سيطرة "الدولة الإسلامية" في سوريا وهو ما دفع هؤلاء المهاجمين إلى رد الفعل، فحسب ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية عن بعض شهود العيان، ردد منفذو هجمات باريس في مسرح "باتاكلان" قبل ارتكاب المجزرة "إنها مسؤولية هولاند, الذي لايجدر به التدخل في سوريا".
لم يخطر ببال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ولو للحظة أن الطائرات الفرنسية التي نفذت أولى غاراتها في سوريا في 27 من شهر سبتمبر الماضي بهدف مكافحة تهديدات تنظيم الدولة وحماية الأمن القومي الفرنسي من خطره قد صدّرت لبلده قنابل موقوتة صنعت في سوريا فكرا أو جسدا ثم ما لبثت أن انفجرت في القبلة السياحية الأولى في العالم مخلفة خسائر بشرية واقتصادية وسياسية كبيرة له ولبلاده.
لقد انتقلت "الدولة الإسلامية" منذ مدة إلى مرحلة استهداف العدو البعيد، ولم تفرق بين بلد عربي وآخر أوروبي، فقد هاجم مسلحوها متحف باردو في العاصمة التونسية ونزلا سياحيا في مدينة سوسة الساحلية وقتل وجرح المئات من السياح، ثم أعقب ذلك إسقاط طائرة ركاب روسية في سيناء راح ضحيتها أكثر من 200 سائح روسي، ثم هجمات باريس التي أوقعت مئات القتلى والجرحى جلّهم من الفرنسيين.
لم نذكر الهجمات المتتالية على الحسينيات الشيعية في كل من العراق والكويت واليمن والسعودية والبحرين لأن هذه الدول والأهداف لم تكن مصنفة في خانة العدو البعيد عند التنظيم، بل يعتبرهم عدوا قريبا بحكوماتهم وطوائفهم في حين ركز هجماته الخارجية على السياح اللذين يعتبرهم رعايا للدول التي تحاربه فوجب النكاية في دولهم وثنيهم عن التدخل في شؤون تنظيمه عن طريق استهداف مواطنيهم في كل مكان محقّقا بذلك بعض أهدافه وعلى رأسها محاولة الضغط على شعوب دول التحالف لكي تسحب حكوماتها طائراتها الحربية التي ضيقت الخناق عليه وأفقدته السيطرة على عديد المناطق داخل سوريا والعراق وقتلت وجرحت منه الالاف.
في الأخير، من المفارقة والمضحكات المبكيات أن يقوم "أكبر الإرهابيين في التاريخ الحديث" برفقة مندوبه الدائم في الأمم المتحدة "بشار الأسد وإبراهيم الجعفري" بتقديم النصح بالرئيس الفرنسي قائلا له "اعمل لمصلحة شعبك" مشيرا الى أن الإرهاب ارتد على داعميه بعد 5 سنوات.