فهمي هويدي يكتب عن المياه الدافئة وراء الصراع بين موسكو وأنقرة

العالم
نشر
12 دقيقة قراءة
تقرير فهمي هويدي
فهمي هويدي يكتب عن المياه الدافئة وراء الصراع بين موسكو وأنقرة
كبار المسؤولين العسكريين في روسيا خلال مؤتمر صحفي حول مكافحة الإرهاب في سوريا Credit: VASILY MAXIMOV/AFP/Getty Images)

هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

بعض التاريخ يمكننا من الإحاطة بخلفيات وسيناريوهات الصراع بين موسكو وأنقرة، وقد يساعدنا على أن نحدد رؤيتنا الاستراتيجية بناء على ذلك.

(1)

قصة جمهورية «مهاباد» تشكل مفتاحا مهما لفهم ما جرى وما يمكن أن يشهده الصراع بين موسكو وأنقرة، إذا قدر له أن يستمر ويتصاعد. ومهاباد هى مدينة واسم منطقة فى شمال إيران، تسكنها أغلبية كردية، وقد أصبحت جمهورية قصيرة العمر تشكلت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. بعدما دخل الحلفاء إلى إيران وسيطر السوفييت على أجزاء من شمال البلاد، وفى وجود القوات السوفيتية شجعوا إقامة كيانات مستقلة موالية فيها، كانت أذربيجان واحدة منها، وكانت الثانية هى جمهورية مهاباد الديمقراطية الشعبية التى تأسست عام ١٩٤٦ ورأسها قاضى محمد مؤيدا من قبل الحزب الديمقراطى الكردستانى، إلا أن الضغوط الغربية القوية على الاتحاد السوفييتى والشكوى التى قدمتها طهران أمام الأمم المتحدة واتهمت فيها السوفييت بعدم الانسحاب من أراضيها اضطرت موسكو إلى التخلى عن مهاباد بعد ١١ شهرا من تأسيس جمهوريتها. وبانسحاب السوفييت وجهت إيران حملة عسكرية لاستعادة السيطرة على المناطق الكردية، وحين وصلت تلك الحملة إلى العاصمة مهرباد، فإنها ألقت القبض على رئيسها قاضى محمد وشقيقه صدر ونفذت فيهما حكم الإعدام. إلا أن فريقا من الأكراد ظل يقاتل القوات الإيرانية تحت قيادة رئيس الأركان فى حكومة مهاباد مصطفى البرزانى (والد رئىس إقليم كردستان العراقى الحالى مسعود بارازانى) إلا أنه هزم فى المقاومة فلجأ إلى الأراضى السوفييتية، حيث بقى هناك حتى عام ١٩٥٨، عاد بعدها إلى العراق.

هذه الخلفية تسلط الضوء على ثلاثة معالم فى سياسة موسكو الخارجية. الأولى والأهم يتمثل فى التوجه نحو الجنوب فى محاولة التوسع والتمدد، الأمر الثانى يتعلق باستثمار ظروف المناطق الرخوة التى لا تواجه فيها تحديات تكبح جماحها. الأمر الثالث يتمثل فى العلاقة الخاصة والتاريخية التى أقاموها مع الأكراد واستثمرتها موسكو فى تنفيذ مخططاتها.

(2)

اتجاه موسكو إلى الجنوب سابق على إقامة الاتحاد السوفييتى وظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية. ذلك ان لهذه الاستراتيجية جذورا تمتد إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. أى فى مرحلة روسيا القيصيرة التى تمددت فى آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز، التى اعتبرتها حديقتها الخلفية المؤدية إلى الجنوب. ذلك أن أبصارهما ظلت معلقة طول الوقت بالمياه الدافئة فى الجنوب التى كان البحر الأبيض المتوسط رمزا لها. فى تلك المرحلة المبكرة لم يكن السبيل إلى عالم المياه الدافئة سهلا بسبب وجود دولتين كبيرتين تعترضان ذلك الطريق، هما الامبراطورية الفارسية والامبراطورية العثمانية. ولذلك تعددت الحروب بين روسيا القيصرية، وهاتين الامبراطوريتين خلال القرن التاسع عشر بوجه أخص. فقد اشتبكت مع الدولة الفارسية خلال السنوات (١٨٠٤ ــ ١٨١٣ ــ ١٨٢٦)، ودخلت فى حرب ضد العثمانيين فى الأعوام ١٨٢٨ و١٨٢٩ و١٨٥٣.

وإذ ظل التمدد والتوسع باتجاه المياه الدافئة عنصرا حاكما فى السياسة الروسية طول الوقت، إلا أن الكنيسة الأرثوذكسية كان لها دورها المساند لتلك السياسة خصوصا فى عهد الامبراطور نقولا الأول (عام ١٨٥٣). إذ استخدم نفوذ الكنيسة فى التحرش بالدولة العثمانية، فطلب من السلطان العثمانى عبدالمجيد تنحية الكاثوليك وإحلال الأرثوذكس محلهم فى القرارات المتعلقة بالأماكن المقدسة، بحيث يكون للآخيرين دون غيرهم حرية التصرف فى مفتاح كنيسة المهد ببيت لحم وفى طور لاحق طلب القيصر الروسى وضع جميع الرعايا الأرثوذكس فى الدولة العثمانية (نحو عشرة ملايين شخص) تحت حماية روسيا وكنيستها الأرثوذكسية. وحين رفض السلطان العثمانى الطلب، كان ذلك من بين الأسباب التى دفعت الروس إلى اجتياح البلقان فى منتصف القرن التاسع عشر.

يذكر فى هذا الصدد أن القيصر نيقولا الأول الذى حكم روسيا بين عامى ١٨٢٥ و١٨٥٥م كان له النصيب الأوفر من بين القياصرة الذين أعلنوا الحرب على الدولة العثمانية ومشهودة حروبة التى شنها بين عامى ١٨٢٨ و١٨٢٦ إضافة إلى خرب القرم بين عامى ١٨٥٣ و١٨٥٦. وفى الحالتين تدخلت الدول الغربية إلى جانب الأتراك لمنع روسيا من إنزال الهزيمة بالدولة العثمانية وعدم السماح لها بالوصول إلى البحر المتوسط. وفى الوقت ذاته فإن روسيا ظلت آنذاك تساند حركات التمرد ودعوات الاستقلال الوطنى فى البلقان لإضعاف نفوذ الدولة العثمانية.

(3)

فى الوقت الراهن صار حلم القياصرة فى الوصول إلى المياه الدافئة أقرب إلى التحقيق. إذ شاءت المقادير أن يتولى القيادة فى موسكو زعيم أراد أن يعيد إلى روسيا هيبتها التى فقدتها بعد الذى أصابها جراء انهيار الاتحاد السوفييتى فى بداية تسعينيات القرن الماضى. وتزامن ذلك مع اجتماع عوامل أخرى أعطت انطباعا بأن الطريق إلى المياه الدافئة بات مفتوحا وممهدا. فإيران الجارة الكبرى تم تحييدها وعلى تفاهم وتوافق مع موسكو. والعالم العربى شوِّه وعيه وانفرط عقده بحيث تحولت الأمة إلى شراذم متفرقة لم تعد تستهجن التدخل الأجنبى بقواعده وجيوشه وإنما صارت تشتهيه. ثم إن روسيا مطلوبة ومرغوبة من جانب النظام السورى، وثمة تفاهم ومصالح مشتركة بين القاهرة وموسكو. ليس ذلك فحسب وإنما صارت مصر مشتبكة وعلى خصام مع تركيا وهى التى وقفت إلى جانب السلطنة العثمانية ضد الروس أثناء حرب القرم فى منتصف القرن التاسع عشر، ولا يقل أهمية عن كل ما سبق أن الولايات المتحدة لم تعد مشغولة كثيرا بما يحدث فى المنطقة، بعدما حصرت اهتمامها وركزته على مواجهة تطلعات الصين، أما أوروبا التى كانت تقف بالمرصاد لتطلعات القياصرة الروس فإنها أصبحت مشغولة بحسابات القارة واستقرارها، لدرجة أنها لم تفعل شيئا يذكر لاحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم فى جنوب أوكرانيا.

روسيا الآن لم تعد فقط تتطلع إلى المياه الدافئة، وإنما أصبحت تتمدد على شواطئها فى سوريا، ولم تكتف بتكثيف وجودها العسكرى على الأرض والجو، وإنما عمدت إلى إقامة القواعد فى طرطروس واللاذقية وثمة حديث عن تجهيزها لقاعدة ثالثة قرب حمص. ليس ذلك فحسب، وإنما لم تجد القيادة الروسية غضاضة فى أن تتعامل مع الشعب السورى بمثل ما تعامل به بوتين مع الشيشانيين عام ١٩٩٤، حين استخدم جيشه وطائراته لتدمير العاصمة جروزنى وتسوية مبانيها بالأرض بعد إخلائها من السكان، وكان ذلك متماهيا تماما مع أداء النظام السورى.

فى هذه الأجواء أسقطت تركيا الطائرة الروسية من طراز سوخوى التى اخترقت أجواءها، واعتبر الرئيس الروسى ذلك «خيانة» و«طعنة فى الظهر» جرحت كبرياءه وبسببها أعلن أن بلاده مستعدة للرد والردع. ولن تمرر الإهانة بغير حساب عسير، وهو ما استدعى أسئلة عديدة حول طبيعة الرد وحدوده وما تملكه موسكو من أوراق وأرصدة تعينها على تلك المواجهة.

(4)

حتى الآن ثمة توافق على أمرين فى الصراع الحاصل بين موسكو وأنقرة، الأول أن المواجهة العسكرية مستبعدة خصوصا أن تركيا عضو فى حلف «الناتو» الذى تشترك فيه الولايات المتحدة مع الدول الأوروبية، الأمر الذى يحول المواجهة العسكرية إلى مغامرة كبرى وحرب عالمية تحرص كل الأطراف على تجنبها. الأمر الثانى أن الرد الروسى سيكون فى حدود العلاقات والإجراءات الاقتصادية التى يمكن أن تضر بالاقتصاد التركى سواء فى إمدادات الغاز أو السياحة أو التبادل التجارى والمشروعات المشتركة، التى قد يكون لها تأثيرها أيضا على الاقتصاد الروسى. وليست معلومة حدود التصعيد الحاصل بين البلدين، لأن بيد روسيا ورقتين خطيرتين يمكن استخدامهما فى إزعاج تركيا إلى حد كبير. أتحدث عن ورقتى الأكراد والعلويين الذين يمثلون ما بين ٣٠ و٣٥٪ من الشعب التركى. ورغم أنه ليس هناك إحصاء دقيق للاثنين فإن عددهم لا يقل عن ٢٥ مليون نسمة، وهو رقم قابل للزيادة. ذلك أن علاقة الأكراد بالسوفييت والروس قديمة ووثيقة كما سبقت الإشارة. وتجربة جمهورية مهاباد التى أقاموها فى إيران حاضرة لا تزال فى الذاكرة. وإذا وضعنا فى الاعتبار تدهور العلاقة فى الوقت الراهن بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستانى، فإن ذلك قد يغرى الروس بمحاولة توظيف الورقة الكردية فى الضغط على أنقرة. رغم أن مسعود البرزانى رئيس كردستان العراقى يحتفظ بعلاقات إيجابية طيبة مع الأتراك، الأمر الذى قد يشكل عقبة فى طريق ذلك المسعى إذا أرادت روسيا اللجوء إليه، ولا ينسى فى هذا الصدد أن ثمة أكرادا فى إيران المهادنة أو الحليفة، وحساسيتها إزاء الملف تشكل عقبة أخرى. علما بأننى لا أعرف إلى أى مدى يثق الأكراد فى موسكو التى ساعدتهم كثيرا فى السابق، لكنها تخلت عنهم بسرعة حين أدركت أن لها مصلحة فى ذلك. وهو ما حدث فى تخلى الروس عن حكومة مهراباد فى إيران، وحين تحالفت موسكو مع مصطفى كمال أتاتورك فى عشرينيات القرن الماضى، فانفرد الرجل بهم حتى كان حكمه من أشد المراحل دموية فى تاريخهم.

ورقة العلويين، وتحريضهم على التمرد فى تركيا يمكن أن يتكفل بها النظام السورى الذى لم يقصر فى محاولة استمالتهم وتحريضهم طول الوقت فى صراعه مع النظام التركى، وفى ظل التحالف القائم بين دمشق وموسكو فليس مستبعدا أن يتوافق الطرفان على استثمار الورقة العلوية فى إثارة القلاقل والاضطرابات فى داخل تركيا.

هذا الخيار لا يخلو من مغامرة، لأن استخدام الروس لورقة الأقليات فى الضغوط على تركيا قد يدفع أنقرة إلى الرد بتشجيع المسلمين السنة داخل الاتحاد الروسى بدورهم على التمرد وإزعاج حكومة موسكو، وقد ذكرت من قبل أن هؤلاء عددهم نحو ٢٠ مليونا، كما أن بعضهم مستنفر وجاهز للتمرد على الحكم الروسى، خصوصا فى الشيشان وأنجوشيا وداغستان، كما أشرت إلى تقديرات أعداد شبابهم الذين التحقوا بجماعة داعش فى سوريا والعراق، التى تراوحت بين ٤ و٧ آلاف مقاتل.

إننا مقبلون على مرحلة مفتوحة على احتمالات وخيارات عدة، تتراوح بين السيئ والأسوأ، (الأفضل ليس واردا)، ويهمنا فى المشهد أمرين، أولهما أن نتعرف على خلفياته وأبعاده، وثانيهما أن نحدد رؤيتنا الاستراتيجية بناء على ذلك. هذا إذا أردنا أن نحكم العقل والمصالح العليا، وليس الانفعالات والحسابات المرحلية والطارئة.