مقال لغونل تول، المدير المؤسس لمركز الشرق الأوسط للدراسات التركية كتبته خصيصا لـCNN. تول تدرّس أيضا في معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة جورج واشنطن وهي كاتبة لعمود دوري في صحيفة "راديكال" التركية ومتخصصة في الشؤون التركية الداخلية وفي العلاقات بين أنقرة وواشنطن وكذلك القضايا الكردية، علما أن المقال يعبر عن رأي الكاتبة ولا يعكس بالضرورة رأي CNN.
لندن، بريطانيا (CNN) -- لم تقف مخاطر أزمة الصراع على مدينة حلب عند حد هروب الآلاف من جحيم الموت جوعا أو قصفا إلى ملاذهم الأقرب، تركيا، بل تجاوزت ذلك بكثير، إذ إن سقوط مدينة كبرى في الشمال السوري بأيدي القوات الحكومية، يعد ضربة موجعة للسياسة التركية حيال الأزمة السورية.
فقد قطعت القوات الحكومية السورية مدعمة بغطاء جوي روسي، آخر طرق الإمداد الرئيسية بين الثوار وتركيا، ويسمى برواق إعزاز، الذي يربط المناطق الشرقية من حلب، الخاضعة لسيطرة الثوار، بتركيا. سقوط هذا الرواق الهام، سيجعل حلب قريبة من قبضة القوات الحكومية، وبالتالي ستصبح الحدود السورية التركية على مرمى حجر من قوات عدة معادية لأنقرة، كالقوات الحكومية السورية المدعومة من قبل الجيش الروسي، والأكراد.
ليس خفيا على أحد، أن التدخل الروسي في سوريا، خلط أوراق الحرب الأهلية هناك، وقلب الطاولة على الأتراك، فقد كانت أنقرة قبل التدخل الروسي بأشهر قليلة، قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مبتغاها بإنشاء منطقة عازلة في الشمال السوري، إذ كانت قد بدأت بالفعل بوضع الخطوط العريضة لهذه المنطقة مع الحكومة الأمريكية. وتضمنت تلك الاتفاقية بين الطرفين التركي والأمريكي أيضا، توسيع الهجمات الجوية لطيران التحالف على مواقع ما يسمى بالدولة الإسلامية، وإبعادها عن المنطقة التي تحتلها غرب نهر الفرات والتي تبلغ مساحتها 68 ميلا، وتمتد إلى محافظة حلب.
وكانت تركيا تطمح من خلال هذه المنطقة إلى منع التمدد الكردي في
شمال سوريا، وتأكيد سيطرة المعارضة على مدينة حلب بكاملها وبالتالي
إضعاف نظام بشار الأسد. كما أشارت تقارير إلى أن تركيا كانت قد دربت
بالفعل ميليشيا مسلحة كانت ستوكل لها حماية هذه المنطقة.
روسيا تحبط المخططات.
خيّب التدخل الروسي في سوريا آمال تركيا وأبطل مخططاتها، حيث أصبح
إنشاء منطقة حظر جوي، أمرا في غاية الخطورة، بعد نشر روسيا لصواريخ
S-400 في سوريا. ولم تقف الأمور عند هذا الحد
من التعقيد، حيث جاء إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية بعد أن اخترقت
حدودها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ليزيد الطين بلة ويعقد
الأوضاع.
فمنذ تلك الحادثة، وجهت موسكو نيرانها إلى الثوار المدعومين من تركيا،
وتحديدا التركمان، الذين ينحدرون من أصول تركية، علاوة على أنهم
القوات المفضلة بالنسبة لتركيا في إدلب وحلب. ولم تكتفي روسيا بذلك،
فقد بدأت بشن غارات مكثفة على طول الحدود السورية التركية، مما منع
الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا من القيام بأي عمليات جوية في
الشمال السوري.
أضف إلى ذلك، الدعم الروسي للأكراد، فقد سلحت روسيا 5000 مقاتل
كردي في منطقة عفرين، الواقعة بين حلب والحدود التركية، كما وعد بوتين
الأكراد بمساعدتهم في إنشاء دولتهم، من خلال وصل عفرين بمدينة
كوباني.
يذكر أن التعاون بين روسيا وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي جاء على
خلفية التقارب الشديد بين الحزب والولايات المتحدة الأمريكية في
سوريا. وقد أشعل هذا التقارب الأمريكي الكردي من أجل مقاتلة داعش
الغضب التركي، حيث خشيت تركيا من إنشاء دولة كردية على حدودها
الجنوبية، لتتوتر العلاقة بين أنقرة وواشنطن نتيجة لذلك. وقد استدعت
أنقرة مؤخرا السفير الأمريكي، لتعبر عن عدم رضاها عن تصريحات المتحدث
باسم الخارجية الأمريكية، والتي قال فيها إن واشنطن لا تعتبر حزب
الاتحاد الديمقراطي، منظمة إرهابية.
التدخل العسكري التركي
لم تقطع طرق الإمداد بين تركيا وقوات المعارضة التي تدعمها حتى الآن، حيث أن معبر باب الهوى لا يزال تحت سيطرة المعارضة السورية الموالية لتركيا، ولكن ذلك قد لا يدوم طويلا. فإذا نجحت قوات النظام في السيطرة على الجزء الغربي من حلب، ستجد تركيا نفسها معزولة عن المعارضة التي تدعمها الموجودة في الداخل السوري. كما أن نزوح عشرات آلاف السوريون من حلب باتجاه الحدود التركية يشكل ضغطا هائلا على أنقرة. حيث تخشى الحكومة موجة نزوح جديدة في حال سيطرة القوات الحكومية على حلب، علما بأن تركيا تحتضن حتى الآن مليوني لاجئ سوري هربوا من جحيم الحرب في بلادهم.
أما الطامة الكبرى لأنقرة فستكون في حال نجح الأكراد بإنشاء دولة مستقلة لهم تمتد من العراق إلى عفرين في سوريا. وقد توقع البعض أن هذا السيناريو قد يدفع تركيا إلى التدخل العسكري في سوريا. وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ألمح إلى أن التدخل العسكري الأحادي الجانب أو التركي السعودي المشترك أمر مستبعد. وهذا التدخل ستكون له بالفعل مخاطر سياسية وعسكرية. يذكر أن القوات التركية ترفض التدخل العسكري، دون شرعية دولية ودعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
اللعب على وتر المخاوف الأوروبية
مع ازدياد حدة التوترات بين أنقرة وموسكو، ومع استمرار العمليات الجوية الروسية في شمال سوريا، تحاول تركيا تجنب الصدام العسكري مع روسيا. فإجلاء تركيا لحراس كانت قد وضعتهم على ضريح تاريخي لها في سوريا، أظهر الواقع العسكري غير المريح الذي تعيشه أنقرة في سوريا. وأشارت تقارير إلى أن القوات التركية كان بإمكانها العبور إلى شمال سوريا، عبر ممرات كانت قد فتحتها القوات الكردية، إلا أن الجيش التركي لم يشأ أن يضع نفسه مجددا في موقف مشابه لذلك الذي حدث خلال عملية إنقاذ حراسة ضريح سليمان شاه.
لا تقتصر مخاطر التدخل العسكري في سوريا على الشؤون العسكرية، إنما على الشؤون السياسية أيضا، كما أسلفنا سابقا. فسياسات تركيا حيال الحرب السورية لم تلق ترحيبا كبيرا في الأوساط التركية. وفي وقت يحاول فيه أردوغان تحقيق حلمه من خلال جعل نظام الحكم في تركيا رئاسيا، سيكون للتدخل العسكري في سوريا أثر سلبي كبير على نظرة الرأي العام التركي إلى هذه العملية.
وكان أردوغان قد ألمح سابقا إلى أن تركيا قد تتدخل عسكريا في سوريا إذا قادت أمريكا العملية. ولكن الظروف الراهنة وسياسة حكومة أوباما الحذرة قد تجعل الخطوة بعيدة حاليا. لذلك يبدو رهان تركيا الوحيد مقتصرا على المعارضة التي تنوي زيادة دعمها لها، والدفع إلى إنشاء منطقة حظر جوي في سوريا. وستدعم تركيا رهانها باللعب على وتر المخاوف الأوروبية حيال أزمة تدفق اللاجئين، ما ينتج ورقة ضغط تركية على الاتحاد الأوروبي لقبول اقتراحاتها وطلباتها.
وجددت تركيا مؤخرا طلبها بإنشاء منطقة حظر جوي في شمال سوريا، مؤكدة على أن هذا هو الحل الوحيد لوقف تدفق اللاجئين. وبناء على ذلك، فقد يدعم الاتحاد الأوروبي وعلى رأسه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، هذه الفكرة، إذ إن بلدها يتحمل العبء الأكبر في أزمة اللاجئين. ولكن طلبات أنقرة قد لا تجد آذانا صاغية كذلك، في ظل سياسة واشنطن في "تجنب المخاطر". تركيا ترفض حتى الآن تغيير سياستها حيال الأزمة السورية ولكن الوقائع المتغيرة قد تجبرها على ذلك.