تونس (CNN)-- تنتعش في تونس تجارة المحروقات المهربة من ليبيا والجزائر أمام أنظار السلطات الرسمية المتغاضية عن هذه الظاهرة التي وفرت مواطن شغل للعديد من الشباب العاطل عجزت على توفيرها الحكومة، وبقيت بمثابة صمّام أمان للسلم الاجتماعي في البلاد.
تهريب المحروقات أو "الكونترا" باللهجة المحلية التونسية من ليبيا أو الجزائر تحول عند آلاف المواطنين التونسيين خاصة متساكني الحدود إلى مهنة رسمية ومصدر رزق لمن لا دخل له ، يكفي أن يكون لديك سيارة رباعية الدفع لتصبح مهربا وناشطا على الشريطين الحدودين الغربي مع الجزائر والشرقي مع ليبيا أين توجد شبكات التهريب المتخصصة والمنظمة.
ولكل مهرب حججه وأسبابه الخاصة التي دفعته لامتهان هذا النشاط غير القانوني لكنها تجتمع كلها عند التخلص من وطأة البطالة وتجاوز الظروف الإجتماعية القاسية الناتجة، CNN بالعربية تحدثت مع محمد الشمسي أحد المهربين القدامى وشاركنا تجربته في هذا الميدان.
هو رجل في الثلاثين من عمره أصيل محافظة سوسة متزوج وأب لطفلين، لا يخجل من المجاهرة بعمله في التهريب وهو سعيد بمهنته لأنه يكسب لقمة عيشه بطريقة حلال وبعرق جبينه، باشر مهنته منذ أن كان عمره 22 سنة وهنا يشير إلى أن أغلب الذين يشتغلون في هذا الميدان هم من الشبان.
محمد لم يجد إلى حد اليوم عملا محترما يكون بديلا عن حرفة التهريب ويقول في هذا السياق . " كل الأبواب أوصدت في وجهي، فأنا لم أكمل تعليمي الدراسي حاولت في عديد الأحيان طلب قرض من البنك من أجل بناء مشروع لكن طلبي يكون دائما مرفوضًا، وهنا لابد لي من أموال لقضاء حاجياتي اليومية، لا أستطيع السرقة ولا أريد مغادرة بلدي ولذلك وجدت في التهريب فرصة عمل جيدة".
تبدأ رحلة محمد كل يوم منذ الساعات الأولى من الصباح حيث يحمل في سيارته ما بين 200 و250 وعاء بلاستيكي يسع كل واحد منهم حوالي 20 لترا، وفي الطريق يلتقي بالعشرات ممن يزاولون نفس المهنة لتكون وجهتهم واحدة الشريط الحدودي الفاصل بين تونس و الجزائر وبالتحديد النقطة الحدودية فوسانة التابعة لمحافظة لقصرين أين يجدون الوسطاء من الجنسيتين الجزائرية والتونسية ممن يتكفلون بتهريب المحروقات من الداخل الجزائري بأسعاره المتدنية عن طريق الأحمرة أو الخيول لبيعها للمهربين التونسيين وتوزيعها داخل الدولة التونسية.
ويكشف محمد أن هذا المجال من العمل محفوف بالمخاطر طوال الرحلة، هذه المخاطر تتمثل خاصة في ظروف التخفّي عن أعين مصالح الجمارك وعن الشّرطة والخوف من الدوريات المفاجئة التي تصاعد ضغطها ورقابتها في الفترة الأخيرة، حيث يخشى كل مرة من الإيقاف ومن حجز بضاعته أو دفع خطايا مالية والمتابعات القضائية أو كذلك دفع "الرّشوة" والبقشيش.
ولتفادي ذلك، يقرّ محمد بأنه يدفع الرشوة والبقشيش لبعض العناصر الأمنية ، مضيفا أن هذه الظاهرة موجودة قبل الثّورة وبعد الثّورة، ملفتا أن هناك أعوان أمن يسمحون لهم بالمرور دون طلب أيّ شيء ويغضون الطرف عنهم لعلمهم بالظروف الاجتماعية القاسية التي دفعتهم إلى المغامرة في هذا العمل ووعيهم بعجز الدولة عن توفير بدائل لهم ويكتفون بنصحهم بضرورة ترك هذا العمل الخطير والبحث عن بديل.
وبخصوص الأرباح المتاتية من هذا العمل يقول إنها مجزية حيث تصل المرابيح اليومية إلى 150 دينارا تونسيا، أي 80 دولارًا. خلال رحلة تتطلب فقط 5 أو6 ساعات ذهابا وإيابا، يملأ خلالها محمد أوعيته البلاستيكية بالبنزين ثم يعود أدراجه ليقوم بتوزيعها على التجار بالتفصيل الذين يتعامل معهم والذين يتوزعون في نقاط بيع على جوانب الطرقات العامة وكلما بعدت المسافة عن الحدود كلما ارتفع السعر.
خلدون سعيدي، تاجر محروقات مهرّبة من ليبيا بنقطة بيع بإحدى الطرقات الرئيسية بمدينة سيدي بوزيد منذ أكثر من سنتين، يقول لـCNN بالعربية "في ظلّ غياب فرص عمل وقلة الأنشطة وغياب المشاريع هنا، وجدت في هذا العمل حلاّ بديلا ووسيلة لتوفير بعض المال من أجل الاحتياجات الضرورية للحياة، أعرف أنه غير قانوني ولكن الظروف أجبرتنا والدولة متفهمة في هذا الجانب".
وتشهد نقاط بيع المحروقات المهربة إقبالا كبيرا من المواطنين التونسيين من أصحاب السيارات، فالتاجر يبيع لهم لتر البنزين المهرب أرخص بحوالي النصف من الذي تبيعه محطات الوقود الرسمية والمحدّد ثمنه حوالي 0.8 دولار وأحيانا يصل السعر إلى الثلث خاصة في المناطق الحدودية القريبة من ليبيا والجزائر، واقع خلّف أضرارًا جسيمة لمحطات الوقود الرسمية التي هددت في عدة مناسبات بتنفيذ إضرابات والتوقف عن العمل وطالبت الدولة بإيجاد حلول عاجلة لنشاط التهريب.
وفي هذا الجانب قال محمد الصادق البديوي رئيس الغرفة النقابية الوطنية لوكلاء وأصحاب محطات بيع المحروقات، إن محطات بيع المحروقات في الوسط والجنوب وشريط الساحل شهدت تراجعا في معاملاتها ترواح بين 30 و35 بالمائة بسبب استفحال ظاهرة التهريب، مشيرا إلى أنّ 90 بالمائة من المحروقات التي تروج في الجنوب التونسي مهرّبة .
وهدّدت هذه الغرفة النقابية بتعليق نشاطها إذا لم تجد الحكومة حلّا جذريّا لتهريب المحروقات الذي أضر بالمستثمرين في القطاع الخاص خاصة أن تهريب المحروقات لم يعد مقتصرا على المناطق الحدودية فقط بل أغرقت به السوق المحلية وهو ما خلف ركودا في رقم المعاملات الذي بات يناهز المليارات في ظلّ سكوت سلط الإشراف.
ويرى البديوي أن تطويق الظاهرة لن يتم إلا بتجفيف المنابع وإيجاد حلول للوضعيات الإجتماعية التي تعيش من هذه التجارة الموازية والتي تحرج سلطة الإشراف، لافتا إلى أن هذا الإحراج لا يمكن أن يشرّع بأي شكل من الأشكال لتجارة مخالفة للقانون تمارس في العلانية.
ورغم الإجراءات الزجرية التي تم اتخاذها من أجل الحد من هذه الظاهرة لكنها بقيت بعيدة عن التطبيق، ليبقى عمل التهريب على الرغم من متاعبه ومخاطره يستحق التضحية والمخاطرة لأنه يدّر على ممتهنيه الربح الوفير وتستفيد ميزانية الدولة كذلك منه سواء عن طريق الخطايا المالية على أصحاب السيارات المهربة والتي تعود إلى الخزينة العامة أو من خلال تخفيف الضغط على استهلاك البنزين المحلي المدّعم.