هذا المقال بقلم مصطفى راجعي، أستاذ جزائري بجامعة مستغانم في الجزائر، ولا يعبّر عن وجهة CNN بالعربية.
--يعتبر الفاتح من مايو من كل عام عطلة مدفوعة الأجر في عدد من البلدان العربية وليس في كلها حيث أن دول مجلس التعاون الخليجي لاتحتفي بهذا اليوم. ويحق لهم لذلك لأن ذكرى الفاتح من مايو هي في الحقيقة ليس عيدا للاحتفال" بمكاسب" العمال وإنما التاريخ بين أنه يوم للاحتفاء بالعنف الذي بدأته بعض النقابات اليسارية العمالية الفوضوية وحققت من خلاله "مكاسب" لفئة العمال.
كل الوقائع و الأحداث تظهر أن تاريخ الفاتح من مايو هو تاريخ العنف و الديكتاتورية الشمولية التي أضرت بعالم الشغل و بالحياة الاجتماعية والاقتصادية للناس وهو في الحقيقة يوم شؤم وذكرى مأساوية.
في البداية كان الفاتح من مايو هو تاريخ بداية السنة المالية والمحاسبية للشركات الأمريكية سنة 1884 واختارته النقابات العمالية الأمريكية سنة 1886 للقيام بسلسلة من الاحتجاجات العنيفة والاضرابات .في 3 و4 ماي من تلك السنة وقعت مواجهات دامية بين العمال المتظاهرين والشرطة، قُتل إثرها متظاهرون وتم تفجير قنبلة ضد الشرطة أودت بحياة 15 قتيلا من أفراد الشرطة.
كان قادة النقابات يؤمنون بالعنف الثوري حيث كانوا ينتمون إلى التيار اليساري الفوضوي. لا شيء كان يبرر استخدام العنف ضد الشرطة، لقد كان للنقابات العمالية الأمريكية مكاسب اجتماعية كبيرة حيث كانت تمارس سلطة كبيرة على أرباب العمل، كان التوظيف لا يتم إلا بموافقة النقابة التي تلزم كل عامل جديد بالانخراط الإجباري والمشاركة الإلزامية في الاحتجاجات وكانت الاشتراكات الإجبارية التي يدفعها العمال تسيرها النقابة لتقديم خدمات اجتماعية كثيرة للعمال.
في 1889قررت المنظمة اليسارية الدولية المسماة الأممية الاشتراكية الثانية وهي تحالف دولي للأحزاب اليسارية والنقابات العمالية شن احتجاجات في كامل أوربا للحصول على تخفيض لساعات العمل إلى 8 ساعات واختارت الفاتح من مايو لبدأ هذه التحركات. و في الفاتح من مايو في 1890 اندلعت احتجاجات عمالية وفي الفاتح من مايو من السنة الموالية 1891 قُتل عشرة متظاهرين عمال برصاص الجنود بفرنسا. كانت ثمرة كل هذه التضحيات الجسيمة التي أزهقت فيها أرواح العديد من العمال والعديد من أفراد الشرطة أن خفضت ساعات العمل الى 8 ساعات يوميا بعد الحرب العالمية الأولى. هذا هوالمكسب النقابي الجديد الذي مات من أجله الناس.. إنه ساعات عمل اقل.
مع مرور السنوات ستخف حدة العنف النقابي بمناسبة الفاتح من مايو وبدأ هذا اليوم يأخذ طابعا احتفاليا وتحول الى يوم عطلة مدفوعة الأجر ليس في كل البلدان لكن في البلدان الشيوعية وفي ألمانيا النازية وفرنسا الموالية للنازيين. لم يكن من المستغرب أن الزعيم لينين الذي مارس القتل ضد شعبه لفرض برنامجه الإصلاحي هو أول من فرض الفاتح من مايو يوم عطلة رسمية إكراما "للعمال" رغم أن سجله حافل بالجرائم ضد العمال والفلاحين الذين قاوموا سياسته، لقد اتهمهم بالعمالة للأمبريالية وأن وراءهم يدا خفية تحركهم لضرب الثورة الاشتراكية.
النازيون هم ثاني من جعل من الفاتح من مايو عطلة رسمية سنة 1933 وليس من المستغرب منهم ذلك حيث أن التسمية الكاملة لحزب هتلر NAZI هي "الحزب الاشتراكي الوطني للعمال الألمان" ولم يكن من المستغرب أن اللون الأحمر كان يزين العلم النازي. لقد قتل هتلر الملايين من البشر لرؤية حلمه يتحقق في دولة يتساوى فيها الجميع ويعملون كلهم تحت سيطرة الدولة. لقد كانت التضحية بالبشر سواء كانوا عمالا أو غير عمالا الثمن الضروري لتحقيق ألمانيا دولة العزة والكرامة القومية في نظر هتلر.
في شمال إفريقيا خضعنا لهيمنة النازية تحت الحكومة الفرنسية الموالية للنازيين تحت قيادة الماريشال بيتانPetain الذي حكم فرنسا والجزائر انطلاقا من مدينة فيشي الفرنسية. كان الماريشال فيشي ذا ميول اشتراكية وكان يكره أرباب العمل ويصفهم بالأنانية وكان يحن لفرنسا الريفية والحرفية ويكره لها أن تزدهر الصناعة فيها، ووجه نداء للعمال في 1941 و فرض قانونا جديدا للعمل يلبي " المطالب المشروعة" للعمال.
ومازالت فرنسا اليوم تعاني الكثير من المشكلات في نظامها الاجتماعي الذي يصعب إصلاحه نتيجة الإصلاحات التي أدخلها الماريشال الموالي للألمان بيتان. مازلت فرنسا تعاني من الإرث الاجتماعي السيء الذي فرضه ماريشال اشتراكي على بلده فرنسا وعلى البلدان التي كانت تحتلها فرنسا ومنها بلدان المغرب العربي.
إذن هل نحتفي نحن هنا بشمال إفريقيا بالفاتح من مايو بإرث فرنسا الاستعمارية الموالية للنازية؟ أم نحتفي بالإرث النازي الهتلري الذي حاربه أجدادنا وآباءنا في الحرب العالمية الأولى والثانية؟ أم نحتفي بالإرث الشيوعي اللينيني الستاليني الذي عانى معه الملايين من البشر رصاصا وجوعا؟
هنيئا لدول مجلس التعاون الخليجي لأنهم لم يعرفوا كل هذا، لم تحتلهم فرنسا ولا ألمانيا وإلا لانتشرت عندهم أمراض هذا الإرث. من الممكن أن يحتفلوا فحق لهم ذلك، لكن فقط وفق الشريعة الإسلامية التي تقول بالرضا شريعة المتعاقدين، حيث لايمكن أن نفرض على رب عمل أن يدفع أجرا لعامل لم يقدم أي عمل.
الاحتفاء بالفاتح من مايو هو احتفاء بالعنف النقابي ونعف الدولة الشيوعية والنازية التي فرضت على بعض الناس أن يدفعوا أجورا لأناس لم يقدموا أي عمل، وأجبرت آخرين أن يتلقوا مالا لم يبذلوا أي جهد في الحصول عليه. أليس هذا هو أكل السحت ؟ في الأخير ،هذا الفاتح من مايو هو في الحقيقة ذكرى خسائر وذكرى نكبة اجتماعية حقيقية.