هذا المقال لعلي بن فليس، رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق، ورئيس حزب طلائع الحريات. لا يعبّر هذا المقال عن وجهة نظر CNN.
--أسالت الزيارة التي قام بها وفد جزائري إلى دمشق منذ عشرة أيام الكثير من الحبر؛ كما أثارت الكثير من التعاليق المتعجبة أو المستغربة تارة و المنددة أو المستاءة تارة أخرى.
لم يستعجب أو يستغرب من خطوة كهذه إلا من لا يعرف الطبيعة الحقيقية للنظام السياسي القائم في الجزائر؛ و لم يندد أو يستاء من موقف كهذا سوى من كان يراهن على وجود خطوط حمراء لا يمكن لهذا النظام أن يتخطاها في التعاطف و التلاطف مع أمثاله من الأنظمة السياسية الشمولية في العالم العربي.
و سقطت الأقنعة و ظهرت الوجوه إلى العيان على حقيقتها؛ و تبيّنت خيارات النظام السياسي الجزائري و برزت مواقع الاصطفاف و التخندق التي اختارها لنفسه و ليس لصالح الجزائر البريئة من تصرفاته و خياراته.
و كانت المصيبة و أن قادة بلد المليون و نصف المليون من شهداء الحرية اصطفوا و تخندقوا مع خصوم الحرية؛ و أن الناطقين باسم ورثة نوفمبر و الجمهورية الديمقراطية و الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية وقفوا جنبا إلى جنب و اليد في اليد مع حماة الجملكيات.
و بما أننا في الحقل الدولي فلنستعمل قاموسه و لنتكلم لغته؛ أين المصلحة الوطنية للجزائر في موقف كهذا؟ و ما هي الخلفيات أو المنطلقات السياسية التي استند إليها؟ و ما هي الدوافع أو التحفيزات الجيوسياسية التي أخذها في الحسبان؟
بعد مساندة النظام الجزائري للنظام السوري تلميحا جاء وقت اتخاذ موقف التضامن معه تصريحا؛ و هذا الموقف التضامني الصريح لا يمت للمصلحة الوطنية الجزائرية بصلة و كل ما فيه و عليه هو نصرة و سند نظام شمولي لنظام شمولي آخر؛ و القاعدة الثابتة هنا عبر كل الأماكن و الأزمنة هي أن الأنظمة الشمولية تتصرف و كأنها تنتمي إلى نفس النقابة أو نفس النادي تتكاتف و تتآزر فيما بينها دون أن يزعزها سخط الساخطين أو لوم اللائمين؛ و إذا تصرفت هذه الأنظمة مثل هذا التصرف الطبيعي و البديهي و المنطقي بالنسبة لها فذلك لأنها تعلم العلم اليقين أن مصائرها مرتبطة و أن مصالحها متداخلة و أن ديمومة الواحد منها مرهون بديمومة أمثاله.
فالجزائر بريئة براءة كاملة من هذه الخطوة التي تجرأ حكامها بالإقدام عليها متناسين ثقل إرثهم التاريخي و متجاهلين سابق فضل الشعب السوري علينا في ثورتنا التحريرية و مخالفين لأعمق مشاعر الشعب الجزائري تجاه أشقائه في سوريا و هم يضحون أيما تضحيات من أجل استرجاع صنع مصيرهم بأيديهم.
إن الجزائر مثل العديد من الدول العربية الأخرى قد سأمت تكاليف نظام شمولي ألحق بها الإخفاق تلو الإخفاق سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا؛ و عادت الجزائر لا تطيق منظومة سياسية تسلطية أضاعت عنها كل فرص الإصلاح و التجديد؛ و صارت الجزائر لا تتطلع سوى للخروج من الانسداد الشامل الذي قيدت إليه و لفتح آفاق جديدة لعصرنة منظومتها السياسية و إعادة هيكلة اقتصادها الوطني و الخوض في الإصلاحات الاجتماعية العميقة التي تتطلبها مواكبة مقتضيات عصرها.
يمكن للمصالح الآنية و الذاتية للمنظومة السياسية الجزائرية البالية أن تملي عليها واجب الوقوف إلى جانب شبيهاتها من المنظومات السياسية العربية؛ لكن الجزائر التواقة إلى نقلة ديمقراطية حقيقية و الشعب الجزائري الذي لا يراوده سوى الحلم بالعصرنة و التجديد و الإصلاح لا يمكن أن يرضيا لنفسهما بمكان خارج الصفوف المناهضة للشموليات السياسية أيا كان شكلها في العالم العربي و خارج خندق المطالبة بالمواطنة و بالحريات و بالحقوق الذي يتعزز فيه.
و إذا كانت المصلحة الوطنية الجزائرية لا تقتضي مثل هذه الخطوة و إن كانت ذات المصلحة تقتضي عكس ذلك تماما فما هي الخلفيات أو المنطلقات السياسية لهذه الخطوة المشينة إن وجدت أصلا؟
إن الجواب على هذا السؤال لا يتطلب بتاتا الكثير من التمعن أو التفكير أو التحليل؛ إن محاولات الإصلاح في العالم العربي قد أدخلت الرعب و الفزع في صدور الحكام الجزائريين؛ و ما أن دخلت المحاولات العربية الرامية إلى التغيير السياسي الجذري في دوامة الانزلاقات و الانحرافات و الانشقاقات و الحروب الأهلية حتى استعاد النظام السياسي الجزائري أنفاسه و استرجع روح التسلط من جديد و جعل من المطالبات بالتجديد السياسي في العالم العربي مفزعة يراد بها ردع أي تطلع إصلاحي في بلدنا؛ و هكذا أصبحت مفردات التجديد و الإصلاح و التغيير كلمات قبيحة في أفواه حكامنا و أصبح مجرد التلفظ بها جريمة و خيانة و باتت توضع في خانة العمالة إلى أيادي خارجية خبيثة و التخابر مع العدو الخارجي الغاشم.
و بالفعل فإن خطاب النظام السياسي الجزائري أضحى لا يخلو من التحذيرات المتواصلة و الكثيفة من أي إصلاح في العالم العربي و وصل الأمر بأصحاب هذا الخطاب إلى حد تقديم أي مطالبة بالخروج من التحجر السياسي و التصحر الذي طال فضاء الحقوق و الحريات على أنها جزء لا يتجزأ عن مؤامرة دولية كبرى تحاك ضد العالم العربي للعبث بسيادته و استقلاله و نهب خيراته و عرقلة نهضته المزعومة.
إن هذا الخطاب المبكي – المضحك لا يضع لنفسه حدودا في الاستغباء و الاستخفاف بعقول العرب عامة و الجزائريين خاصة؛ لقد بات هذا الخطاب يردد بثقة عالية في النفس و لا يخشى الحجة النقدية و البيان المضاد و لا يربكه يقينه بأن الشعوب العربية و الشعب الجزائري يعرفون من هم المدبرون الحقيقيون و الفعليون للمؤامرة الكبرى التي تحاك ضدهم و تحول دون تطورهم و رقيهم على غرار أمم العالم الأخرى: فهم حماة منظومات سياسية تخاف التغيير و لا تهنئ إلا للركود الذي تسميه الاستقرار و تعتقد أنها ليست بحاجة إلى الشرعية لأنها تحتكر و سائل العنف و القمع و تسمي ذلك السيادة الوطنية
و هكذا تولدت لدى النظام السياسي الجزائري القناعة الراسخة بأن فشل كل عمل إصلاحي في العالم العربي يصب في مصلحته و أن نجاحه يعتبر انتكاسة كبرى بالنسبة إليه.
و إذا كانت الخطوة التضامنية للنظام الجزائري مع النظام السوري لا تمت بصلة للمصلحة الوطنية الجزائرية و إذا كانت خلفياتها و منطلقاتها محصورة في دائرة الحفاظ على ديمومته فهل من وراء هذه الخطوة حسابات جيوسياسية يمكن أن تبررها أو تستوجب تفهمها؟ بعبارات أخرى هل هناك مكاسب جيوسياسية خفية يمكن للنظام الجزائري- و ليس للجزائر دولة و أمة و شعبا- أن يجنيها نظير سنده المعنوي و مؤازرته السياسية للنظام السوري الذي حكم عليه السوريون بأنفسهم قبل أن يحكم عليه التاريخ إن عاجلا أم أجلا؟
والجواب على هذا السؤال بسيط أيضا؛ إن عجلة التاريخ لا تدور لصالح النظام السياسي الجزائري القائم أو النظام السوري؛ لقد خرجت هذه الأنظمة و أمثالها في العالم العربي عن مسار التاريخ الذي حسم عاقبتها و فصل فيها.
لقد خسر النظام السياسي الجزائري رهاناته الجيوسياسية على النظام البائد في ليبيا؛ لكنه لم يتعظ من الفشل الذريع الذي منيت به رهاناته؛ كما أنه لم يوفق في دراسة و تحسب عواقبها الكارثية.
فها هو يراهن نفس الرهان؛ فمن يمكن أن يشك في أن رهانه هذا سيلقى نفس الجزاء؟