هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
عاد الصخب الإعلامي والسياسي يثير التكهنات حول نوايا أطراف القضية
الفلسطينية في الشهور القادمة. عاد الصخب فجأة بعد سنوات من
الصمت والهدوء وكثير منهما كان متعمدا، وربما ضروريا للتركيز على
إثارة أو تهدئة بؤر أخرى فى المنطقة. عاد فجأة ليس كما قيل لأن فرنسا
دعت الى مؤتمر مبهم ومائع يعقد في باريس ولكن لأن الرئيس المصري خرج
عن صمت وتعتيم التزمهما منذ تولى مسئولية الحكم ليدلي بتصريح خارج
السياق ومن خارج العاصمة .
لا تخرج "المبادرة " الفرنسية عن كونها دعوة لمؤتمر دولى
يعقد فى فرنسا يحرك عملية التسوية الراكدة، بدون أي إشارة
لمضمون تسوية جديدة أو أفكار طازجة أو تغير جذري في موازين
القوة. بمعنى آخر لا جديد فى «المبادرة الفرنسية» سوى الرغبة
ربما في الحصول على اعتراف دولي وداخلي بأن الدبلوماسية
الفرنسية مازالت تنبض، حتى لو كشف نبضها الضعيف عن نفوذ متردي وفقر في
الآداء وصعوبة في احتلال أو استرداد موقع في القمة الدولية.
"المبادرة" المصرية كذلك، كلمات أطلقها الرئيس السيسى فى خطاب له بأسيوط يجدد بها أمام الآخرين استعداد مصر التدخل لتسهيل الجهود الهادفة لاستئناف المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. يرى محللون أن مجموع كلمات الرئيس المصري لا يشكل "مبادرة مفيدة" أو إضافة حيوية في سجلات القضية ولكن في ظني أنها كانت أكثر من كلمات ويجب أن ننظر اليها بعين الجد والاعتبار لأسباب ليس أقلها شأنا انها صدرت عن رئيس رفض أن يأتي على ذكر اسرائيل بكلمة رضا أو غضب على امتداد مدته في الحكم رغم بشاعة ما ارتكبته اسرائيل وترتكبه من جرائم وحشية . أستطيع أن افهم منطق المدافعين عن هذا الصمت الطويل فالرجل ونظامه يريدان العودة بمصر إلى وضع كانت تبدو فيه مستقرة في الداخل ومرتاحة في الخارج وإن متآكلة الثروة والنفوذ والدور. أتصور أن وراء اهتمام المحللين بكلمات الرئيس المصري ما هو اكثر من أنه نطق باسم اسرائيل في خطاب جماهيري في مدينة بعيدة عن القاهرة، بؤرة النشاط الإعلامي.
جاء في خطاب الرئيس كلام عن البناء فوق المبادرة العربية التى أقرتها قمة بيروت فى عام ٢٠٠٢، هذه المبادرة التى اطلقتها المملكة العربية السعودية وأثارت ضجة في رأي عربي عام ظن أنها الخطوة الأولي في إعلان المملكة ودول الخليج استعدادها المشاركة الايجابية في تسوية القضية الفلسطينية والتلميح الى امكان الاعتراف باسرائيل. الحقيقة ان المملكة سبق أن طرحت في أحد مؤتمرات القمة العربية مبادرة كان قد أطلقها الملك فهد من ست نقاط، وكان هدفها في ذلك الحين طمأنة الولايات المتحدة إلى أن الموقف العربي من مقاطعة كامب دافيد ومبادرة السلام المصرية لن يستمر طويلا. حدث هذا في مطلع عقد الثمانينات، أي قبل قمة بيروت، قمة المبادرة السعودية، بعشرين عاما. وقتها انقسمت القمة العربية إذ طرحت مبادرة السلام السعودية ولم يكن قد مضى على وقف عضوية مصر في الجامعة العربية أكثر من ثلاثة أعوام.
إن إشارة الرئيس المصري في خطابه بصعيد مصر الى
المبادرة السعودية التي أقرتها قمة بيروت قبل أربعة عشر عاما لا
بد أن تجعل المحللين يربطون بين مبادرته وبين تحركات سعودية
تسرب بعضها ويتوصلون الى اجتهاد مفاده أن مصر أرادت بكلمات أدلى
بها رئيسها في أسيوط أن تفرض المبادرة السعودية، ولا شيء
غيرها، أساسا تقوم عليه كافة المبادرات المتوقعة
فى المرحلة القادمة، بما فيها "المبادرة" الفرنسية.
لماذا الآن، لماذا تحرك فجأة رئيس "الإليزيه" فى باريس، ولماذا تحرك
علانية وفجأة رئيس "الاتحادية" فى القاهرة، لماذا نشطت فجأة
الدبلوماسية السعودية في اتجاه اسرائيل؟ لماذا تحركت فجأة عناصر
فلسطينية اقامت طويلا في المنفى في انتظار لحظة بعينها؟ هل حانت
اللحظة؟ هل توجد أي علاقة بين الصخب العالي في اسرائيل حول "
الانزلاق" نحو اليمين المتطرف وبين التطورات الإقليمية والدولية في
شأن القضية الفلسطينية، ألم تجر العادة على أن يكون اليمين
مهيمنا في السلطة عند اتخاذ قرارات مصيرية في اسرائيل وفي
المنطقة ؟. إيران؟ كم هي بعيدة وقريبة في آن واحد من تطورات
تتعلق بمستقبل إسرائيل وتحالفاتها في الشرق الأوسط؟.
هل من نفوذ وضغوط من جانب أردوغان في اتجاه بعينه
خاصة وقد عاد متدفقا نشاطا وقوة ومتدخلا في كافة المواقع؟.
الإجابة على هذا النوع من الأمثلة تبقى غالبا فى حيز التخمين
والاجتهاد بسبب الضباب الكثيف الذى يخيم منذ مدة على كافة
قصور الرئاسة ومراكز صنع القرار فى عواصم المنطقة كما فى عواصم غربية،
وبسبب التخبط وضعف التنسيق، وهما من بين عديد النقائص
التى اعترفت بها على سبيل المثال قيادات الاتحاد الأوروبى فى
اجتماعاتها الأخيرة، وكذلك قيادات القمة الصناعية السبع فى اجتماعها
هذا الأسبوع فى اليابان. لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن كلا النقيصتين
صارتا علامة مميزة فى صنع القرار الجماعى الغربى كما في القرار
العربي، لا يبقى أمام المعلقين السياسيين سوى الاعتماد على قدراتهم
التحليلية والمعلومات البسيطة المتوفرة لفهم جانب مما يدور، وطرح
احتمالات أو سيناريوهات بعضها صار يضيف تعقيدات الى وضع هو في أساسه
شديد التعقيد.
استطيع وبإيجاز استخلاص اجتهادات من بين أهم ما طرحته بعض
التعليقات السياسية العربية والأجنبية. أفعل هذا بدون تدخل
متعمد من جانبي في الرأى والتحليل، فالأمر بالنسبة لى مازال يبدو شديد
الغموض وفضلا عن أغلب تصرفات الأطراف تكتسي حساسيات مقلقة ومزعجة.
كدنا من فرط المبالغة في التعتيم على تحركات ونوايا الأطراف المباشرين
نعتقد بأننا نقترب من تطور شبيه بمسلسل بدأ بزيارة الرئيس السادات
للقدس وانتهى باتفاقية كامب دافيد.
خذ مثلا الرأي القائل في الغرب واسرائيل بأن التحركات الأخيرة للدبلوماسية الدفاعية والسياسية للملكة العربية السعودية تشير إلى ان قرارا ربما اتخذ بالفعل فى شأن احتمال عقد اتفاقية صلح أو معاهدة سلام أو بروتوكول صداقة وأمن متبادل أو أى صيغة أخرى تؤدى فى النهاية إلى إقامة علاقات دبلوماسية أو سياسية بين إسرائيل ودول الخليج ابتداء بالمملكة العربية السعودية أو انتهاء بها. يردد بعض أصحاب هذا الزعم بأن إصرار المملكة، وربما إسرائيل بالضغط أو المساومة على انهاء مسألة الجزيرتين، تيران وصنافير، في تكتم وسرعة، وقبل أن تحين ساعة التفاوض على مستقبل الأمن والسلام فى المنطقة، هذا الاصرار دليل مادى ومنطقى على أن وراء الصخب الحادث والاتصالات الجارية والمفاوضات والاتصالات السرية الجارية بين أطراف عديدة، أهدافا أخرى أكثر وأهم من هدف التوصل إلى تفاهمات فلسطينية -إسرائيلية محدودة بمباركة إقليمية ودولية.
أتحسس ميلا واضحا ومتزايدا لدى قيادات القوى الفاعلة إعلاميا ودبلوماسيا في الشرق الأوسط لاعتبار أن إقامة علاقات دبلوماسية بين دول الخليج وإسرائيل صارت مسألة وقت لا أكثر. تحسست ميلا نحو اعتبار آخر وهو أن القيادة السياسية المصرية ربما توصلت إلى أن السلام البارد القائم حاليا بين مصر وإسرائيل لا يمكن، و لا يجب، أن يدوم طويلا. هذا السلام البارد صار، في نظر أحد المتخصصين الأجانب، مكلفا للطرفين فضلا عن أنه مهدد دائما بالاختراق طالما ظلت مساحة العلاقات العربية بإسرائيل محدودة بمصر والأردن وقطر، أو هكذا يردد أنصار التوسع في العلاقات مع إسرائيل.
سمعت وقرأت بوضوح أحيانا وبغموض متعمد في أحيان أخرى أن
الدبلوماسية الأردنية تستعد بإجراءات دستورية داخلية وتعبئة
دبلوماسية وشعبية لاحتمال ان "تستجيب " لطلب أو " ضغط"
لإعادة دمج الضفة الغربية، تحت أى اسم، فى المملكة الأردنية.
هناك في الأردن كما في خارجه، من يعتقد بأن الأردن
قد احتل نتيجة تطورات الربيع العربى، وبخاصة غياب كل من
العراق وسوريا، وظيفة «القلب» لأى نظام إقليمى يقوم فى المنطقة.
نعرف أن سوريا "قلب النظام العربى" ومركز طاقته غائبة، وقد يطول
غيابها، ونعرف أن العراق، الامتداد الطبيعى لطموحات هذا القلب
نحو الشرق، غائب وغيابه ثقيل وعنيف. نعرف كذلك أن
مصر، وهي الامتداد أو العمق الاستراتيجي والتاريخي لهذا
القلب، تعيد ترتيب أسبقياتها بعد أن ارتبكت الأولويات وتداخلت مع
أولويات قوى أخرى في الإقليم وخارجه. أما وأن الأمور وصلت إلى
هذا النحو فلن يبقى للأردن عمق استراتيجي له الاعتبار سوى نحو الجنوب
فى المملكة السعودية ونحو الغرب فى إسرائيل.
لم يفت على كثير من المحللين مغزى الواقع المتغير فى إسرائيل، هناك
حيث يضرب التوتر قطاعات مهمة في النظام السياسى مع الميل الواضح في
المزاج العام نحو التطرف اليمينى فى السياسات والآن فى البناء
الحزبى. هذا التوجه، رغم المعارضة البارزة من جانب اليسار
والعلمانيين، يؤذن باحتمال أن تستقر النية الإسرائيلية على
عملية "تدخل جراحى" فى العلاقة مع الفلسطينيين، بمعنى
القبول بوضع يكون للفلسطينيين حق استخدام كلمة فلسطينية
في خرائطهم، بشرط أن لا يأخذ هذا الكيان الفلسطينى شكل "الدولة كاملة
الاستقلال". لاشك أن قرارا كهذا سوف يحتاج إلى مباركة اليمين المتطرف
قبل طرحه للنقاش مع الفلسطينيين فى المفاوضات المباشرة التى ستنظم
انعقادها مصر مع فرنسا، استعدادا لعقد مؤتمر باريس أو نتيجة
له.
يصل المحلل السياسي الى نتائج خاطئة اذا بالغ في قيمة ووزن احد المتغيرا ت على حساب متغير آخر. تعلمنا أن التقدير الرشيد للأوزان النسبية للاعبين الأساسيين في أي قضية دولية هو السبيل الضروري للتوصل الى نتائج واقعية أو أقوي قابلية للتحقق. في ظل توازنات القوة الإقليمية الراهنة وضغط العنصر الإيراني وتعقيدات الوضع المصري وصعود اليمين الاسرائيلي واهتراء منظومة الأمن القومي " العربي" أخشى ما أخشاه ويخشاه أكثر الفلسطينيين أن يتكرر سيناريو التجربة الأولي في الصلح مع إسرائيل. تحصل الأطراف الرئيسة على غاياتها، وهي إقامة علاقات كاملة أو جزئية وتحصل فلسطين على وعد لن تنفذه الاطراف المتصالحة.