هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
هناك، في الأمريكتين وأوروبا وأفريقيا، تمرد واسع على أفراد السلطة الحاكمة. لا أظن أن النخب الحاكمة تعرضت لمظاهر وسلوكيات غضب عام مثل ما تتعرض له هذه الأيام. رأينا التمرد صارخا وفاعلا في صورة الشعبية التي حصل عليها، بأشكال مختلفة، كل من دونالد ترامب وبيرني ساندرز في حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، لمجرد أن الرجلين عبرا بصور متباينة عن الشعور السائد لدي قطاعات أمريكية واسعة بكراهية الرجل العادي للطبقة الحاكمة التي تمثلها قيادات الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وغضب شديد علي قيادات مؤسسات المال كالمصارف والشركات المالية العظمي المتحكمة في اقتصاد أمريكا ونظام الحكم فيها.
رأينا التمرد واضحا أيضا وبالغ التأثير في تطور أحداث الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، غضب في إنجلترا جسده الانقسام المثير داخل حزبي المحافظين والعمال على "قصة الخروج"، وجسده بشكل أكثر وضوحا الاستقطاب الوطني على قضية جوهرية تمس عديد المعتقدات السياسية للشعب البريطاني. نراه في الشرق الأوسط لا يحتاج إلى شرح أو تبرير.
لقد كانت ثورات الربيع في حد ذاتها، وما تزال، تعبيرًا عن غضب شعبي عارم على طبقة حاكمة ترفض أن تتغير أو أن تستجيب لحاجة الشعوب إلي الحرية والمساواة والعدالة والكرامة، وما الفوضى الناشبة في عدد من دول الثورة والتشققات والثورات في دول عربية ودول جوار إلا الدليل الأنصع على أن تحالف الطبقة الحاكمة يرفض التغيير ويقاوم بالقمع والتعذيب والقتل والإبادة أحيانا. وهي الدليل الأقوى على أن الشعوب ماتزال تلح على ضرورة التغيير رغم الصعاب والمعاناة التي واجهتها منذ نشوب ثوراتها.
رأينا ونري الشعوب وهي تواجه عناد الطبقات الحاكمة بأعمال مبدعة وأساليب مبتكرة وبأمواج شباب وأجيال أصغر عمرا. أغاني وأهازيج الفلاح في زمن العبودية والإقطاع المملوكي حلت محلها أغاني شباب المدن.
المثير والمفيد فيما رأيناه علي امتداد خمس سنوات هي عمر ثورات الربيع العربي ونراه الآن في أروع تجلياته في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأوروبا الغربية، هو كيف أن الشعوب قررت أخيرا أن العولمة لم تكن لمصلحتها كما أدعت الشركات متعدية الجنسية والطبقات الحاكمة، أو بمعني أدق اكتشفت أن نصيبها من العائد السلبي للعولمة كان أكبر جدا من نصيبها من العائد الايجابي، وهو العائد الذي راح أغلبه إلي خزائن ومصالح المصارف والمؤسسات الدولية والشركات الكبرى، ومنها إلي جيوب أفراد الطبقة الحاكمة وحساباتهم البنكية. يبدو أنها قررت أيضا أن العولمة كانت وراء الفساد العميق الذي ضرب الطبقات الحاكمة وكان بدوره، ولايزال، وراء الاستبداد المتصاعد والقمع المتفاقم وإرهاب الدولة، بل الإرهاب بصفة عامة.
لو عاش اللورد آكتون في يومنا هذا لما قال بأفضل من عبارته الشهيرة عن الفساد "السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة". يقول ماثيو سويف في حديث له ببرنامج التفكير الحر بالإذاعة البريطانية، أن آكتون نطق بهذه العبارة بمناسبة رغبة المنافقين المحيطين بالسلطة البابوية "تفصيل" قانون يحمي البابوات ويحصنهم لأنهم "لا يخطئون". وما زلنا بعد مائة وخمسين عاما من تصريح اللورد آكتون نصدر قوانين تحمي رجال ونساء السلطة لأنهم لا يخطئون. لم تكن العبارة فتحا في سيرة التحذير من ظاهرة الفساد، ولكنها أثارت شهية علماء الاجتماع على دراسة الظاهرة، وبخاصة السؤال المتعلق بالعلاقة بين السلطة بأشكالها المختلفة، المنصب والثروة والوجاهة واكتمال الصحة والقوة البدنية والشهرة من ناحية، والسلوكيات المعيبة من ناحية أخري.
لاحظ الدارسون مثلا أن السيارات الفارهة أو الغالية الثمن أو التي تحمل علامة "ماركات" شهيرة لا تهتم بالمارة في الشوارع. راقبوا تصرفات سائقي السيارات المرسيدس عند مفترقات الطرق فوجدوا أن أغلبها لا يقف للمارة علي عكس أصحاب السيارات المتواضعة، بل لاحظوا سلوكا أهم وأعمق أثرا، لاحظوا أن قادة السيارات الفخمة كثيرا ما يعطون المارين دروسا في ضرورة احترام حق السيارات الفخمة في المرور قبلهم ويتولون أحيانا إصدار توجيهات لبعض المارة بالمرور والآخرين بالانتظار. وفي أحيان كثيرة كان قادة هذه السيارات يتجاهلون المارة ولا يهتمون بهم ويتعمدون النظر نحو جهة أخري غير الجهة التي يقف فيها عامة الناس الراغبين في "تعدية" الشارع أو تجاوز حالة الانحشار في زحمة الطريق.
ذكرتني هذه الدراسة الميدانية، وغيرها مما سيأتي ذكره لاحقا، بالكتاب الرائع الصادر في سنوات الستينيات لعالم الاجتماع السياسي "سي رايت ميلز" تحت عنوان نخبة القوة أو السلطة، وهو الكتاب الذي أطلق العنان لعلماء عديدين لدراسة أصول الطبقة الحاكمة في أي مجتمع سياسي. يقول رايت إن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة قامت على ائتلاف يضم ممثلي النخب العسكرية والسياسية والمالية في المجتمع الأمريكي. لعب الكتاب كذلك دور الباب الذي دخل منه كثيرون لإثبات أن هذا النوع من الائتلافات الحاكمة هو الطريق الأسرع للنازية والفاشية، بحكم أن النازية وغيرها من نظم الاستبداد قامت وتقوم على أكتاف ائتلافات مماثلة.
ثم جاء عالم الاجتماع الشهير سوروكين الذي درس النخبة الحاكمة في موسكو مؤكدة ما أشار إليه سي رايت ميلز، مع إضافة اكتشافه أن أغلب أعضاء النخب الحاكمة يعانون من مرض "السلطة"، هم في العادة أكثر ذكاء من الناس العاديين ولكن مصابون بحالات "انحراف" عقلي لا توجد بنفس النسبة بين طبقات المحكومين. أظن أن سوروكين وأتباعه اعتقدوا أن السلطة المطلقة تصنع في عقل الحاكم المطلق "عوالم" خيالية أو متخيلة تبعده يوما بعد يوم عن الواقع والحكم الرصين.
يعود الفضل لعالم الاجتماع يوجين جينينغز في دراسته لأكثر من مائة وستين من رجال الأعمال والمديرين والقادة السياسيين في اكتشاف أن هؤلاء القادة من رجال السلطة والنفوذ يعتقدون أن الحرص على إقامة صداقات والمحافظة عليها دليل ضعف، وينصحون بأنه لا يجوز اختيار رجل سلطة أو حكم يؤمن بالصداقات ويحبذها أو يكثر منها. اكتشف أيضا أن معظم القادة يقدمون المصلحة الشخصية على المصلحة العامة في حال تعارضتا. في دراسة ميدانية أجراها داتشر كيلتنر الأستاذ بجامعة بيركلي على مجموعة من قادة السياسة والإدارة وجد أن إنتاج الفرد منهم يقل إذا شارك في عمل جماعي، ومهاراته في الخلق والإبداع تنحسر.
أما السبب، حسب خلاصة الدراسة، فهو أنه إذا عمل ضمن جماعة فسوف يهتم أكثر شيء بالبحث عن موقع قيادة وسلطة يفرض منه زعامته على الجماعة. في دراسات أخري وجد الأستاذ كيلتنر أن عضو النخبة أو الإدارة العليا لا يهتم كثيرا بلغة التخاطب مع مرؤوسيه ولا يخصص وقتا للاستماع إلى مشكلاتهم. وجد أيضا وللغرابة الشديدة أن عضو النخبة الحاكمة، ملكا كان أم رئيسا أم وزيرا أم محافظا أم مسئولا في المجلس المحلي، كثيرا ما يميل إلى تحميل الشعب مسئولية الأخطاء والفشل في الحكم، وأن عضو الإدارة العليا كثيرا ما يميل إلى تحميل مرؤوسيه أو المستهلكين والعملاء مسئولية عدم تحقيق أهداف الشركة أو المؤسسة.
أغلب الدراسات الميدانية الصادرة عن جامعة بيركلي تؤكد أن الفقراء أو الأقل حظا أكثر عطاء ورغبة في التطوع والعمل الخيري، تؤكد أيضا أن أهل السلطة يعتقدون أن الفقراء أقل ذكاء منهم، وقد تحمس علماء اجتماع ألمان لإجراء دراسات تثبت عكس ما توصل إليه الأكاديميون ذوو التوجهات "النيو-ليبرالية"، مثل أن الأغنياء هم الأكثر عطاء واستعدادا للتطوع. سقطت أكثر هذه الدراسات تحت أول امتحان للإحصاءات والمناهج الأكاديمية التي اعتمدت عليها، ثم سقطت سقوطا مدويا تحت اكتساح توماس بيكيتي وجيل من الاقتصاديين الجدد لساحات البحث في القضايا الناتجة عن اتساع فجوة اللامساواة وفي صدارتها قضية الفساد، وبخاصة فساد النخبة الحاكمة.
فسادها، كما نعلم الآن وبثقة كاملة، ناتج عن سوء توزيع للثروة وعلاجه عدالة اجتماعية عاقلة وموازنة. ناتج أيضا عن سوء توزيع الحق في المشاركة السياسية، أي في السلطة، وعلاجه ديموقراطية حقيقية وحريات أوفر، وكلاهما كانا وما يزالان من مطالب ثورة الربيع الذي، وفي ضوء تطورات حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية وقصة الخروج البريطاني وانتفاضة القوميين الأوروبيين وفوضي الحكم الضاربة اطنابها في امريكا اللاتينية، لم يعد ربيعا عربيا صرفا.