الجزائر (CNN)— يُواجه التيار اليساري أزمة وجود في الجزائر بعدما فقد بريقه السياسي، أين تراجعت حصته في المجالس المنتخبة بفعل تقلص مساحة شعبيته، ممّا انعكس سلبا على نتائج الانتخابات التشريعية والمحلية خلال السنوات الأخيرة، باستثناء بعض المقاعد القليلة التي تحصدها بعض الأحزاب المحسوبة "ظاهريا" على هذا التيار، وهذا ما يفسره الخبراء بعدم وجود "تجديد وتحديث لتوجهات اليسار الفكرية".
ومن بين الأحزاب الجزائرية التي خفت صوتها، نجد الحركة الديمقراطية الاجتماعية، وريثة الحزب الشيوعي الجزائري، هذه الحركة التي باتت تواجه مشاكل على مستوى علاقتها بوزارة الداخلية، بعدما مزقتها الصراعات حول الزعامة وخوضها معارك قضائية مع الإدارة، انتهت أوزارها بانعقاد مؤتمرها شهر ماي من السنة الجارية، حسبما أكده المنسق العام للحركة حميد فرحي في حديثه لشبكتنا.
ويقول فرحي، المعركة مع الإدارة لن تتوقف عند حدود انعقاد المؤتمر، بل لا يزال ملف الحركة حبيس أدراج وزارة الداخلية، هذه الأخيرة التي راسلت الحركة بعد مرور 20 يوما من انعقاده، تطالب فيها باستكمال الملف المودع على مستوى مصالحها وهو ما فهمه القائمون على الحزب على انه إشارة ضمنية لموافقة الوزارة على ملفهم، لكنها ليست كافية لتبديد مخاوفهم، بحسب محدثنا.
وعند استنطاق التاريخ السياسي، يقفز إلى السطح رصيد اليسار النضالي الذي كانت بداياته مع "نشأة نجم شمال إفريقيا سنة 1926 من طرف العمال الجزائريين المهاجرين في فرنسا بقيادة مصالي الحاج وزملائه في حضن هذا التيار، مرورا بحزب الشعب، ثم تعزز بتأسيس جبهة التحرير الوطني"، وفقا لما صرح به الدكتور بلية لحبيب لـCNN بالعربية.
وبعد الاستقلال، يضيف بلية: "تقوى اليسار في الجزائر كثيرا نتيجة انتهاج الدولة الجزائرية الخيار الاشتراكي بفعل عوامل عديدة، من بينها أن هذا الخيار يعاكس توجهات الدولة الفرنسية المستعمرة السابقة، إضافة إلى أن الحركة التي قادت الثورة التحريرية كانت متشبعة بالفكر اليساري التحرري، ناهيك عن أنه كان من باب رد جميل لدول المعسكر الاشتراكي".
غير أنه بعد انتهاج الجزائر مسار التعددية الحزبية "بعد إقرار دستور 1989 ظهرت العديد من الأحزاب اليسارية التي تمثل مختلف أطياف اليسار التروتسكية والاشتراكية والشيوعية، سرعان ما تلاشت بفعل تراجع التيار في عقر داره اثر تفكك الاتحاد السوفياتي وهبوب رياح التغيير والإصلاحات في دول المعسكر الشرقي"، على حد تعبير محدثنا.
هذا، ولم يمنع تبني الجزائر لخيار اقتصاد السوق بالموازاة مع إقرار التعددية من تخلي الدولة عن "الذهنية الاشتراكية"، ويتجلى ذلك من خلال محافظة الجزائر على مستوى سياستها الاجتماعية على بعض الأفكار الاشتراكية كمجانية التعليم ومجانية العلاج، وهو ما اعتبره المحلل السياسي ناصر سعدي بأنه "يندرج ضمن مكاسب اليسار أو التقاليد لتي باتت موجودة في الجزائر بصرف النظر عمن يحكم".
ويربط سعدي في حديثه لـCNN بالعربية، تراجع اليسار بتراجعه على المستوى العربي والعالمي، "ففي فترة الستينات والسبعينات كانت هناك حركات التحرر الوطني وكان المعسكر الاشتراكي تنضوي تحته حوالي 70 دولة في العالم والتي كانت تتلقى الدعم من هذا المعسكر بزعامة الاتحاد السوفياتي".
أما الدكتور منصور قديدير فيفسر هذا التراجع بـ "عدم تمكن العرب عامة والجزائر تحديدا، من إنتاج فكر اشتراكي عربي أو بتمايز فكري اشتراكي عربي يعكس واقع وتطلعات المجتمعات العربية، وهي الفكرة التي اختصرها سمير أمين حين قال بدل أن نلغي كارل ماركس كان يجب أن (نعربزه) أو نعربه بالأحرى".
ويتحدث قديدير لـCNN بالعربية عن سبب آخر، وهي أن "السعودية أخذت دور الوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية في محاصرة منابع الشيوعية والشيوعيين بمقاربة دينية إسلامية، واليوم نجد أنفسنا ندفع ثمن الحرب على الشيوعيين في أفغانستان التي برهنت على عجز اليسار العربي أمام الحرب الدينية الإسلامية وهو ما ينسحب على حال الجزائر".
وعن الحلول الممكنة لاسترجاع التيار اليساري بريقه، يؤكد سعدي على "ضرورة إعادة النظر وإعادة قراءة لأدبيات اليسار"، في حين يدعو قديدير الحركات اليسارية العربية، إلى "تحديث توجهاتها الفكرية بشكل يتماشى ويتناسق مع صورة العالم أو المجتمعات العربية نفسها فذلك هو السبيل الوحيد لها لضمان مكانة لها والإبقاء على استمراريتها".