إسماعيل عزام ، الرباط (CNN)-- في الوقت الذي يظهر فيه الصنبور داخل بيتك جزءًا من تفاصيل حياة عادية.. تفتحه أّنّى تشاء وكيف ما ترغب، تتحوّل هذه الأداة إلى حلم المئات من القرويين المغاربة الذين يقطعون كيلومترات قاسية حتى يظفروا بما يضمن لهم شربة ماء ويتيح إطفاء ظمأ بهائمهم ويمكّنهم من غسل أوانيهم القليلة.. وإذا ما تبّقى شيء ما، يمكنهم الاستحمام وهم يحسبون كم إناء ماء استقبلته أجسادهم.
وكما لو أن الجفاف يتحد مع قساوة الطبيعة، توّقفت السماء عن ريّ أراضٍ تقتات من الفلاحة البورية (البعلية)، وانتهت أحلام القرويين في الزراعة إلى كابوس انتهى بحصد الخسائر بدل درّ الأرباح، فأضحت البهائم سبيلًا وحيدًا للعشرات منهم حتى يضمنوا استمرارَ الحياة في موطن الأجداد، غير أن أنين الدلو الذي يُرمى في المطفية (حفرة عميقة تشيّد بعناية لحفظ الماء) ولا يجذب غير الفراغ، دفع بالقرويين إلى الاعتماد كليًا على مياه صنابير بعيدة عنهم، يُضاعف من بعدها طرقات لا تصلح حتى لسير البغال.
بين سهول منطقة عبدة، إقليم آسفي، حيث يشتد الصيف فتتجاوز الحرارة 40 درجة، كانت لـCNN بالعربية جولة في قرى متباعدة. تفرّقهم الجغرافيا والمنعرجات وحتى بعض الصراعات القبلية، لكنهم يجتمعون في خندق واحد: خندق الباحثين عن الماء الشروب.
في الطريق إلى العمورية
براكة لمين، أنت في باحة استراحة تابعة للجماعة القروية الثوابت، غير أن الكثير من سكان جماعة اثنين لغيات يزورونها لشراء ما يلزمهم من ضروريات. هنا تتوقف بك الحافلات القادمة من مدينة الدار البيضاء والمتجهة إلى مدينة الصويرة. لا حلّ لك إذا أردت تفادي المشي لكيلومترات غير الاستنجاد بعربة يجرّها بغل أو حصان عاش أغلب حياته في تلّقي السوط لنقل الناس. تسير العربة رويدًا رويدًا في طريق تبدو بداية صالحة للسيارات، بيدَ أن الطريق تتخلّى تدريجيًا عن ليونتها حتى تجد نفسك في منعرجات قادرة على إلقائك خارج العربة إن لم تتشبث جيدًا.
حوالي خمسة كيلومترات تفصل البراكة عن قرية العمورية، في الطريق انتصبت سقاية من صنبور واحد، وضعها رجل كريم بالمجان لأبناء القرية الذين يسكنون بالقرب أو لمن زار البراكة ويرغب بقليل من الماء له ولدابته. طوال الطريق وبُراز الحصان ينثر رائحة تزكم أنفاسك، وذيله الذي لم يكف عن الدوران يقترب منك حتى يكاد يصفع وجهك.
طبيعة باهتة هجرتها الخضرة بسبب شحّ السماء.. مطفيات مغلقة وأخرى مقفلة بمفاتيح.. يحدّ الطريق من الجانبين نوع من الصبار لا يُنبت إلّا الأذى. ما هي إلا لحظات حتى ظهرت سقاية أخرى قُرب مدرسة ابتدائية يلجها العشرات من الحالمين بمهن تنقذهم من قساوة العروبية (اسم يطلق كذلك على البادية بالمغرب)، غير أن مرافقنا أكد أن حارس هذه السقاية كثيرًا ما يغيب، وأن التلاميذ لا يجدون أحيانًا ما يغسلون به معدتهم من ظمأ الاكتظاظ ومرارة التنقل.
بين البيتية والمطفية.. قصة معاناة
منعرجات خطيرة هي أول ما يستقبلك في قرية العمورية، البعيدة بـ7 كلتمرات تقريبًا عن براكة لمين.. هي المنعرجات نفسها التي تمنع ما يصطلح عليه هنا بـ"البيتية" (خزانة الماء المتنقلة) من الوصول. يتحدث لنا ع. الهادي، 50 سنة، أب لخمسة أطفال، عن معاناة الأسرة لإيجاد الماء: "لا مجال هنا لحفر الآبار بسبب قلة المياه الجوفية وقلة ذات اليد.. الصنابير بعيدة عنا بـ4 كلم، لا حلّ لنا لجلب الماء غير الاعتماد على دوابنا.. أما البيتية، فغالبا لا تصل إلينا، وإن قبل صاحبها، فهو يطلب ثمنًا غاليًا".
"البيتية" هي صهريج الماء المتنقل على جرار. تحمل حوالي 4,5 ألف لتر من الماء. يبلغ ثمن الاستفادة منها ما بين 200 و300 درهم. بينما يبلغ ثمن ملء البراميل التي تحملها الدواب أو العربات 10 دراهم لكل ألف لتر. يفضل القرويون "البيتية" لأنها تضمن لهم كمية أكبر من الماء تغنيهم عن التنقل اليومي، غير أن الطرقات لا تساعد في الاستفادة منها، كما أنه ليس لجميع القرويين القدرة على أداء ثمنها، لا سيما أن كميتها لا تكفي لمن لديه بضعة رؤوس ماشية سوى 10 أو 15 يومًا.
يلجأ القرويون إلى "المطفيات" لحفظ الماء، واحدة للشرب وأخرى للدواب واستعمالات التنظيف. كان المطر يملأ هذه المطفيات في سنوات الرخاء، أما الآن، فلا حل سوى المياه المدفوعة الثمن. كما يخلق الماء هنا تضامنًا بين السكان عند حالات العطش، عندما يعطي الجار جاره ما يفرّج به كربة يوم حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، يخلق كذلك حالات عداوة، خاصة بين القرى التي حالفها الحظ وانتصبت الصنابير قربها، وبين تلك التي عاندتها رغبة مسؤول ما وأبعدتها عن مركز الماء.
يزيد من مرارة العطش في قرية العمورية حرارتها المرتفعة عن بقية القرى، إذ تنتصب المنازل في مُنحدر تختنق فيه الأجواء. يتحوّل الصيف هنا إلى قطعة عذاب، خاصة بعدما غيّر مُعظم السكان جدران منازلهم من الطين إلى الاسمنت اتقاءً لانهيار محتمل، فمكّنهم الإسمنت من اطمئنان على حياتهم لكنه أفقدهم مكيّفًا طبيعيًا كان يساعدهم على نوم مطوّل يستريحون به من عناءٍ لاستقبال عناء آخر.
قطعة من العذاب
في اليوم الموالي، توجهنا إلى منطقة أخرى في العمق اسمها لمحسينات. كان لزامًا الوصول إلى مركز تسوّق يحمل اسم خميس نكة، بعد ركوب سيارة "خطاف" (نقل غير مرّخص) تحمل أكثر من حمولتها، لدرجة أن السائق دسّ معه راكبًا في مقعده. بمجرّد الوصول إلى المركز، يتحوّم حولك سائقو العربات المجرورة، يمنّون النفس الظفر براكب كريم يتيح لهم العودة إلى بيوتهم بقليل من الزاد.
بدأت الطريق مرنة رغم غياب التعبيد، ثم تطوّرت الصعوبة. امتزج اللون البني للحصان مع لون الأرض فحوّله إلى لوحة بجمال يكتنز المعاناة.. يُبطئ السير حينًا حين يجد نفسه أمام مرتفع ويرفعه حينًا عندما تستوي الأرض، وأحيانًا لا نجد غير النزول حتى يجتاز الحصان ممرًا يحمل بشكل غريب لفظ طريق. 13 كلم بين المركز ولمحسينات، لا يؤنس وُعورة الطريق إلّا أطفال يلقون عليك التحية بكثير من العفوية وهم يرعون بهائم أسرهم.
بعد بضعة كلمترات، وفي دوار خربة السبع، لاحت سقاية في الأفق. استقبلنا حارسها محمد بكثير من الترحاب. أكد لنا أن هذه السقاية تندرج في إطار الشطر الثاني من عملية تزويد قرى جماعة اثنين لغياث بالماء الشروب، ولا تزال الجماعة تنتظر الشطر الثالث الذي من المنتظر أن تستفيد منه بقية القرى. لذلك لم تجد 170 عائلة بهذه المنطقة غير تجرّع مرارة التنقل المُضني وقطع ما يصل إلى 4 كلم بالنسبة للقرى البعيدة حتى تستفيد من صنبورين في انتظار أن تنتصب سقاية يومًا ما بقربهم.
يُخبرنا الحارس أن تزوّد السكان بالماء من السقاية يمرّ غالبًا في أجواء عادية، إلّا عندما ينقطع الماء بسبب ثقب في الأنابيب، وهو ما تسبّب ذات مرة في انقطاع الماء لثلاثة أشهر، عانى خلالها السكان كثيرًا واضطروا لأداء ثمنٍ غالٍ لإقناع أصحاب صهاريج الماء بجلبها إلى قراهم أو قطع كيلومترات طويلة ببغالهم بحثًا عن صنابير تروي عطشهم.
لعرايش.. تجسيد عميق لمعاناة العطش أوّل ما يتراءى لك وأنت تصل دوار لعرايش، جزء من منطقة لمحسينات، المطفيات المتناثرة هنا وهناك، كأنها ضمانة لقرويين بسطاء خوفًا من اشتداد العطش وانقطاع الطريق. نادرًا ما تجد مطفية داخل البيوت، خوفًا من اتساخها واختلاط مياهها بمخلفات البهائم. أطفال يتوّلون مهمة جلب الماء دون أن يكترثوا بشمس حارقة تلهب وجوههم البريئة.. أقدامهم تحوّلت إلى قطع من حجر لدوسهم الدائم على أراضٍ مُسنّنة. منذ أشهرهم الأولى في الحياة يتعوّدون على قسوة تُنضجهم قبل الأوان. يحكي لنا ميلود، 33 سنة، أن ساكنة لعرايش استبشرت خيرًا بوعود مسؤولين عام 2006 بتزويد الدوار بالماء الشروب، غير أن الوعد اضمحل مع مرور السنين. يضيفُ أن اشتداد العطش في بعض المواسم وصعوبة نقل الماء يدفعان بالسكان إلى شرب مياه المطفيات المخصصة للبهائم، ويتبعون لأجل ذلك طريقة بسيطة لتصفية الماء: يضعون ثوبًا أبيضًا على الإناء قبل سكب محتواه في أفواههم، ثم ينطقون عبارة "باسم الله".. هكذا يبتعد الضرر عن الماء. يبقى هذا الدوار محظوظًا رغم بُعد الصنابير، فدوار آخر قريب منه لا يتوّفر حتى على الكهرباء، رغم أن خطوطها تمر بمحاذاته. يُدبّر الناس هنا الماء بكثير من الاقتصاد، يقتنعون أن بهائمهم أجدر باستهلاك الماء على أن يختلط بالصابون والشامبو، وحدهن الأمهات يشفقن على أطفالهن الصغار، فيسكبن عليهم لترات معدودة من الماء حتى لا تجف أجسادهم. يزيد الفقر من معاناتهم، لا حياة لزراعتهم مع الجفاف، والعطش وقلة الكلأ أثرا على أرباحهم القليلة من تجارة البهائم. حُرموا من حق الحاضر وقد يُحرم حتى أبناؤهم من حق المستقبل، فنسبة الهدر المدرسي مرتفعة لبُعد المؤسسات التعليمية. لكن القرويين ينسون كل همومهم إلًا همًا واحدًا: "نريد ماءً دائمًا في بيوتنا وأراضينا"، هكذا كانت وصية ميلود وهو يوّدعنا. نادتهم رغبة الرحيل أكثر من مرة، فالأسباب واضحة ولا تحتاج لكثير من الإسهاب.. إلّا أن الكبرياء يمنعهم من حمل أسمالهم القليلة والاتجاه إلى مدن تبتلعهم في صمت. يسمعون حكايات من سبقوهم إلى المراكز الحضرية، منهم من بقي أبد الدهر في دور صفيحي ومنهم من اغتنى بحق أو بغير حق. تتعدد مظاهر إغراء الهجرة، لكن هذه الأرض تربطهم كما لو أنها جزء منهم.. حتى ولو كان حق كأس ماء يتطلب واجبًا لا يستحق كل هذا العناء.ملحوظة: اتصلنا بالمكتب الوطني للماء الصالح للشرب لأجل إدراج رأيه في هذه المادة.. لكننا لم نتوصل بأيّ جواب رغم مرور ثلاثة أيام على توجيه طلبنا.