جميل مطر يكتب: أي أمل يرجى في غرب ينحدر

العالم
نشر
12 دقيقة قراءة
جميل مطر يكتب: أي أمل يرجى في غرب ينحدر
Credit: Kevin C. Cox/Getty Images

هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

قيل الكثير تشخيصا ورأيا في الحملة الجارية حاليا لانتخاب رئيس للولايات المتحدة الأمريكية. بعض ما قيل صدر متأثرا بحماسة أجهزة الإعلام التي وجدت في أحد المرشحين فرصة لا يصح تفويتها إذا حسن استخدامها لصنع معركة انتخابية تدر دخلا وفيرا، بعض آخر مما قيل صدر متأثرا برغبة النخبة المهيمنة في الحزبين تحريك الركود السياسي الذي أمسك بخناق واشنطن في ظل حكم باراك أوباما وكاد بالفعل يكتم أنفاسها. أكثر ما قيل ويقال يعود في رأيي ورأي آخرين إلى تطورات وتوجهات سياسية أعمق وأخطر.

                                                  ***

صديق أمريكي تخصص في العلاقات عبر الأطلسي علَّق على الحملة الانتخابية الأمريكية بقوله، هي الحملة الأشد قبحا في تاريخ الانتخابات الأمريكية. أطلق الصديق تعليقه واستطرد قائلا ما معناه أن الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات لن يكون أحد المرشحين، إنما الغرب كجماعة بشرية تعتنق عددا من المبادئ الحقوقية والأخلاقية وتعتقد أنها حملت على أكتافها عقودا أو قرونا مسئولية التبشير برسالة. تصدرت الديمقراطية هذه الرسالة أسلوبا للحكم بنماذج متعددة تصلح للتطبيق في كل الثقافات والعوالم. عاشت جماعة الغرب تفخر بأن رسالتها كانت وراء معظم الانجازات العلمية والقفزات الواسعة التي حققتها البشرية عبر العصور الحديثة. كذلك آمنت، أو على الأقل كانت تؤمن حتى وقت قريب، أن لا عودة عن الديمقراطية لمن تبناها ومارسها، هي طريق في اتجاه واحد، إذا سلكته الشعوب فلن تحيد عنه.

 أما الشعب الذي لم تساعده الظروف ليسلكه فسوف تظل أحلامه متعلقة به وبالنماذج المختلفة التي يقدمها والانجازات الراقية التي يكشف عنها. كان الظن أن الشعوب لن تتوقف عن المطالبة بها وأن الحكام، حتى المستبدون منهم، لن يتوقفوا عن تأكيد التعهد بتبنيها ذات يوم قريب أو بعيد. أصحاب هذا الظن كثيرا ما اطمأنوا إلى أن إقبال حكام عديدين على تشجيع صناعة الدساتير والتزامهم الاتفاقات الدولية يعني ثقة خفية في الديمقراطية. سقط الظن أو كاد، وشواهد سقوطه كثيرة، ليس أقلها شأنا عدد الدول التي انحرفت مساراتها في السنوات الأخيرة عن مسيرة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان. هذا على الأقل هو ما تشهد به آخر إحصاءات "فريدام هاوس"، المؤسسة الأمريكية المتخصصة في قياس نمو أو تآكل الممارسة الديمقراطية. بل أن هناك من نقل عن رؤساء غربيين الاعتقاد أنه ربما كان الحكام العرب على حق حين حذروا من أن تطبيق الديمقراطية في بلادهم في الوقت الراهن لن يخدم هدف الاستقرار.

                                             ***

تأكدت الظاهرة، ظاهرة انحسار تيار الديمقراطية بمضمونها الغربي في العالم بأسره. صحيح أن نخبا حاكمة سربت لأنظمتها "الديمقراطية" مضامين أخرى رافضة المضمون الغربي، إلا أنها لم تتجاسر وتعلن أن أساليبها في الحكم المطلق صالحة للبقاء والاستمرار في كل المجتمعات آجالا طويلة. زعمت وتزعم أن الديمقراطيات التي اختارتها بمضامين مختلفة عن مضمون الديمقراطية الغربية إنما هي تجارب مؤقته أو محلية هدفها النهائي الوصول إلى الظروف التي تسمح بتبني ديمقراطية الغرب. عشنا في الشرق الأوسط سنوات في ظل دساتير وقوانين حقوق لا تعمل ولكنها قائمة لزوم تبريد الشعور بالذنب تجاه الغرب ولتفادي عقوباته. عشنا، وبخاصة دبلوماسيتنا، نتفنن في إقناع الغرب بأننا مجبرون على سلوك مسالك الاستبداد لتحقيق نمو أسرع أو استقرار أطول. أقمنا هياكل تشريعية على النمط الغربي لم تقنع أحدا، لا الغرب خدع ولا أطراف العلاقة المباشرين ناخبين كانوا أم منتخبين أخذوها مأخذ الجد. عشنا، نحن أعضاء النخب السياسية في كافة أنحاء العالم النامي، نحرص على رضاء الغرب، نعيب عليه تجاوزاته الإمبريالية وازدواجية تعامله مع القيم الإنسانية والأخلاقية، ولكن في النهاية عشنا ننتظر حكمه على أدائنا في النمو وقدرتنا على حماية مصالحه. عشنا كل هذا وعاشته معنا شعوب كثيرة قبل أن نصل معه، نحن مع الغرب، إلى نقطة مفصلية في تطور العلاقات بيننا، هي اللحظة التي نعيشها معا الآن

 

                                        ****

لم نصل معا إلى هذه النقطة من فراغ. ما زالت فيتنام تتلوى بآلام خلّفتها حربان فرضتهما فرنسا وأمريكا، الأولي كانت للرغبة في البقاء هناك كقوة استعمار من النوع البغيض جدا والثانية كانت للحاجة لفرض النموذج الأمريكي نظاما للحكم. كذلك الحال في الشرق الأوسط الذي يعيش مخاضا أليما منذ تدخلت أمريكا في العراق لإسقاط حكم رجل يعبد الحكم ويقدس نفسه ولتغيير أسس الاستبداد. تدخلت تحت ضغط وتخطيط وتنفيذ مجموعة من المخربين اساءوا استخدام شعارات الليبرالية والديمقراطية. جاءوا من خلفية استشراقية وعنصرية. دمروا وخربوا وفككوا هياكل اجتماعية وسياسية وحاكموا رئيس الدولة واعدموه ورحلوا. سكت أهل الشرق الأوسط عن المطالبة بتحقيق دولي يكشف حقائق ويذيع وقائع عن واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، جريمة فكرتها أشبه ما تكون بفكرة القنابل العنقودية المحرم استخدامها، طويلة المفعول واسعة الانتشار شديدة الفتك.

                                                  ***

تعرضنا مثل غيرنا  من الشعوب لموجات عولمة، الواحدة في ذيل الأخرى. فرحنا بها وطالت السكرة. فجأة ومع مطلع القرن أفقنا وأفاقت معنا كل الشعوب لنكتشف أننا أصبحنا على هويات بترتيب وأولويات تختلف عن تلك التي كنا عليها، ولنكتشف أننا وجدنا أنفسنا أطرافا في علاقات اجتماعية أكثرها غير سوي أو منطقي. كنا في سابق الأيام نتوحد في مواجهة الصدمة أو الاعتداء، فجأة صرنا ننفرط وأحيانا كثيرة نتقاتل في مواجهة أدني تهديد وأقل إساءة. فجأة أيضا حل الشره والغش محل الاستحقاق والشرف. عرفنا فيما بعد أن العولمة  مسئولة عن الهجمات المتوحشة التي شنتها قوى دينية متطرفة وعن الدعوات الانفصالية الصادرة عن عديد الجماعات العرقية وعن الزيادة في وتيرة الاحتكاكات المذهبية والطائفية.

لم يكن غائبا عن الأذهان أن العولمة صناعة غربية  وأنها أضرت بمجتمعات بأكثر مما نفعت، لم تنج من ضررها دول في الغرب ومنها الولايات المتحدة.  يزعم المرشح ترامب أن أمريكا ضحية من ضحايا العولمة، وأنها بانحدارها في سلم الأمم تدفع ثمن انسياقها في تيارات العولمة أو قيادتها لها. أتفق معه. فالحديث الدائر في أمريكا عن ضرورات ومزايا بناء جدار على الحدود مع كندا وجدار على الحدود مع المكسيك دليل قوي على صدق مزاعم ترامب

أتفق معه لأننا في أقل من أربعين عاما استقبلت شعوبنا بالترحاب والتفاؤل موجات عولمة اكتسحت حدودا عديدة وأسقطت جدرا مشيدة. ثم استقبلت موجات عولمة أخرى أقامت حدودا حيث لم توجد حدود وشيدت أسوارا حيث لم توجد أسوار. كرهت الشعوب العولمة وراحت تحمل  الغرب  صانعها مسئولية ما يجرى من انفراط وفوضى وظلم اجتماعي ومشاعر عنصرية.

                                                ***

لم يعد للغرب جيوسياسيا المركز الذي تمتع به على امتداد القرون الحديثة. إذ حدث خلال سنوات قليلة، سنوات سلام عالمي لم تشهد له مثيلا شعوب أوروبا وشرق آسيا، حدث أن  تدهورت مكانة أوروبا والولايات المتحدة كقيادة للديمقراطية في وقت احتاجت إليها ثورات الربيع وقوى الديمقراطية في نفس الوقت الذي صعدت فيه القوى اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء العالم. حدث أيضا أن تفاجأ العالم بظهور دونالد ترامب، النقيض المطلق للديمقراطية الليبرالية الغربية ورسالة الغرب الحضارية، ظهر مطالبا بعرش الديمقراطية. حدث  كذلك  أن الغرب بحلفه الأطلسي واتحاده الأوروبي فشل في حماية أوكرانيا من خطط روسيا التوسعية. حدث أن كوريا الشمالية دشنت تجربة نووية جديدة في تحد صارخ لأمريكا والغرب واليابان. حدث أن اتسعت المساحات الخاضعة للإرهاب وامتدت أياديه تنشر الدمار في اٌقاليم عديدة وعدد من عواصم الغرب، ولم يقع حتى لحظة كتابة هذه السطور ما يثبت أن الغرب قادر على تحقيق نصر عاجل ومناسب على قوى الإرهاب. حدث أن ألوفا، وربما ملايين من العرب والأفارقة والآسيويين، زحفوا حتى وصلوا إلى أقصى مشارف الغرب بدون اطلاق طلقة رصاص واحدة. بمعنى آخر ظهر الغرب أمام شعوب الشرق الأوسط وإفريقيا ووسط آسيا ضعيفا ومنفرطا ومفتقرا إلى قيادة قوية تستطيع وقف زحف أهل الجنوب للعيش في معاقل الشمال

وبالنسبة لعرب عديدين فقد سقطت مكانة الغرب كقوة تحتل مركزا جيوسياسيا لم تسبقه إلى مثله قوة أخرى في التاريخ المعاصر، سقطت عندما فشل في استثمار موجات الربيع العربي لصالحه وصالح الديمقراطية ولفائدة السلام العالمي. خاب خيبة عظمى وسقط سقوطا مدويا  في نظر الجماهير في مختلف المدن العربية الثائرة والمتأهبة للثورة على حد سواء. الغرب القائد للديمقراطية ورافع راياتها وحامل رسالتها لم يكن على مستوى لحظة تاريخية كان يمكن لو توفر له الفهم السليم والقيادة الحكيمة والهيمنة العادلة والذكية أن يحقق من خلالها تحرير شعوب طال قهرها والانتقال معها إلى عصر جديد من الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. من وجهة نظرنا كانت ثورات الربيع العربي محكا لاختبار صلابة الغرب في الدفاع عن الديمقراطية وسقط  في الاختبار. سقط الغرب ضحية ثورات الربيع العربي ولم ينهض بعد

***

أي أمل يرجي في غرب ينحدر باضطراد

***