الجزائر (CNN)-- ليس سهلا أن تفتح جراحا كادت أن تصبح ذكرى وتنبش في قبور الذكريات الأليمة و تستخرج منها رفات الماضي الذي يحاول سكان قرى ومداشر ولاية المدية التخلص منها عبر النسيان، وحدها الدموع التي تندلق من عيون الأهالي كافية لتتأكد أن جرح الإرهاب غائر، ويحتاج إلى مزيد من الوقت حتى يندمل ويشفى.
كغيرها من المدن الجزائرية، عانت ولاية المدية من ويلات الإرهاب، وتسببت خناجره من ترك ندبة ظاهرة للعيان، ما يجعلك تقرأ الحزن والأسى في عيونهم التي أنهكتها الدموع على فراق الأحبة، في سنوات التسعينات، وحتى البسمة على مُحاياهم قد ذبحتها سكاكين الأزمة، كان الإرهاب حدّها وذاك المجهول، يمسك بمقابضها.
عشرون عاما تمضي على ما اصطلح عليه آنذاك، "عام المجازر"، من سنوات الجمر التي اكتوت بها المدية وضواحيها وكانت مسرحا لأبشع العمليات الإرهابية من تقتيل وذبح وتنكيل وغيرها من الصور اللاانسانية التي خلفتها أيادي الغدر الهمجي التي أتت على القرى قبل المدن والتهمت أي شيء يقف أمامها.
وقتها، ذاق سكان القرى العزل، مرارة العنف الذي بلغ مداه، بفعل الرعب الذي زرعته الجماعات الإرهابية وصارت تخطف الأرواح وتقطف زهورها من شجرة الحياة، حتى تعسعس ظلامها على كل الإرجاء وتحول إلى شبح يطارد كل نفس تواقة للحياة، بعدها لم يجد الأهالي بُدا غير الدفاع عن أنفسهم وحماية عرضهم وشرفهم بحمل السلاح.
وعلى هذا الأساس، خلُصت السلطات الجزائرية، حينذاك، مع اشتداد الأزمة وتعاظم المجازر التي ارتكبها الإرهاب، إلى قرار بتسليح المواطنين في المناطق التي داهمها طوفان العنف، قصد حماية أرواحهم، فضلا عن تهجير ساكنة المناطق الجبلية القريبة من مراكز تواجد الجماعات الإرهابية إلى المدن أو القرى الأخرى الأكثر أمنا.
وقدمت الجزائر، حينها، أكثر من 200 ألف قتيل، وفقا للإحصائيات شبه الرسمية، ودفعت المدية وقُراها نصيبا من أبناءها لينضموا إلى قوافل الشهداء، الذين سقطوا في ميدان الشرف، ممن تجندوا في صفوف الأجهزة الأمنية أو ممن حملوا السلاح طواعية دفاعا عن قُراهم في سبيل دحض الإرهاب والمساهمة في عودة الحياة مجددا إلى مواطنهم.
وفي تلك الفترة العسيرة، تداول على كرسي الحكم عدة زعماء أمثال محمد بوضياف وعلي كافي واليامين زروال الذين قدموا مشاريع إصلاح وعملوا على إخماد نار الفتنة، غير أنها لم تكن كافية، إلى أن جاء الدور على عبد العزيز بوتفليقة الذي وصل إلى الحكم مصحوبا بمشروع الوئام الوطني سنة 1999، ليأتي على أنقاضه مشروع المصالحة الوطنية سنة 2005 .
الطريق إلى معاقل الإرهاب يبدأ من "تابلاط"
مضت أكثر من عشر سنوات على البدء بالعمل بقوانين ميثاق السلم والمصالحة، الذي جاء ليجد مخرجا سلميا للأزمة التي عاشتها البلاد، بهدف استعادة السلم واستتباب الأمن، ومن هذا المنطلق، قامت CNN بالعربية، بزيارة إحدى المناطق التي تضررت من إرهاب العشرية السوداء، لتقودنا الرحلة إلى ولاية المدية، تحديدا بلدية بني سليمان وضواحيها.
اصطحبنا في رحلتنا من العاصمة الجزائر إلى دائرة بني سليمان التابعة إداريا إلى ولاية المدية، الدكتور "أحمد"، أستاذ العلوم السياسية بأحد الجامعات الجزائرية، ينحدر من المنطقة ويعد احد ضحايا الأزمة، كون والده تم تصفيته ذبحا من طرف جماعات إرهابية رفقة سكان القرية التي كان يعيش بها، في ليلة من ليالي رمضان سنة 1997.
فضّل مرافقنا أن نسلك الطريق الذي كان سنوات التسعينات يسمى طريق الموت، والرابط بين مدينة "الأربعاء" القريبة جدا من منطقة بن طلحة التي شهدت اعنف مجزرة في تاريخ البلاد، وبلدية "تابلاط"، التي شهدت هي الأخرى، أحداث درامية خلال الأزمة، من قتل وذبح وكل أنواع العنف، مما اضطر اغلب أهلها إلى الارتحال إلى العاصمة.
وتتميز الطريق المؤدية إلى مقصدنا بمنعرجات خطيرة كانت في وقت مضى مرتعا للجماعات الإرهابية، ساعدتها التضاريس الجبلية التي تمتد من جبال الونشريس إلى غاية "تابلاط"، يكسوها غطاء غابي كثيف، مع وجود عدد قليل من السكان، ما سهّل من تمركز تلك الجماعات في هذه المناطق.
من قبلة للثوار إلى معقل للإرهاب
وعكس ما كان يعتقد البعض، بأن البيئة الاجتماعية المحافظة التي يتميز بها سكان تلك المناطق هي من ساهمت في تواجد هذه الجماعات، وكذا مع انتشار أخبار عن التحاق بعض شبابها بهذه الجماعات، يؤكد مرافقنا على أن هذه الفرضية عارية من الصحة، مرجعا ذلك إلى الطابع الجغرافي الذي كان السبب الرئيس في تواجدهم في المنطقة.
ويعلل مرافقنا كلامه قائلا، بأن منطقة المدية بكل قُراها ومداشرها كانت من قبلذاك، قبلة الثوار إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقد ألحق ثوار الجهة بالعدو أضرارا جسيمة وكانت تطلق على هذه المنطقة "تيطري"، كانت تعد مركز الولاية الرابعة التي كان قائدها آنذاك، الراحل "سي أمحمد بوقرة".
وأسقط مرافقنا هذا الأمر على ما حدث خلال فترة التسعينات، أين قامت هذه الجماعات الإرهابية التي تشكلت في بادئ الأمر في المدن عبر خلايا سرية، لتنتقل بعدها إلى جبال هذه المناطق للاحتماء بها وجعلها معاقل لها، نظرا لملاءمتها، وحتى أنهم استغلوا خنادق وكهوف كانت مأوى للثوار خلال حرب التحرير.
ومن المفارقات العجيبة، وفقا لمرافقنا، أن "مجاهدي" المنطقة ممن شاركوا في حرب التحرير، حملوا السلاح مجددا في وجه الإرهاب في صفوف "الحرس البلدي"، هذا الجهاز الذي استحدثته وزارة الدفاع الوطني وعمل تحت وصاية قوات الدرك الوطني إلى غاية سنة 2001.
ضواحي بني سليمان .. مستنقعات الدم في سنوات الجمر
وصلنا بلدية بني سليمان، بعدما قطعنا مسافة 90 كلم في ظرف ساعتين من الزمن على متن حافلة تشتغل على خط "الأربعاء - بني سليمان"، وتعد هذه المنطقة من اكبر السهول،(سهل حواطة)، في الجزائر، ويمتهن سكانها تربية المواشي لتلاءم المناخ مع هذه المهنة، ناهيك عن طابعها التلي وتربتها الخصبة، الذي جعل منها قطبا فلاحيا.
عند جلوسنا بإحدى مقاهي وسط المدينة تحلّق حولنا مجموعة من السكان، أجمعوا خلال حديثهم إلينا، أن ضواحي المدينة التي تحيط بها مجموعة من القرى كانت مرتعا للإرهاب، الذي استهدف الكل، غير مفرق بين ذكر أو أنثى أو بين طفل رضيع أو شيخ طاعن في السن، حاصدا بذلك الكثير من الأرواح.
ووجه أغلب السكان أصابع الاتهام إلى الجماعة الإسلامية المسلحة المعروفة باسم "الجيا"، غير أن البعض منهم، على غرار "الزبير"، زعم أن هناك جهات أخرى، كانت وراء هذه المذابح بغية تأليب سكان على الجماعات الإسلامية ودفعهم إلى حمل السلاح إلى جانب القوات الأمنية، لأن الشعب، وقتها، لم يحدد قراره، في أي جهة يصطف.
وثارت ثائرة البعض من كلام الزبير، الذي راح يتساءل بأسى والدموع واقفة في جفنيه، عن وقوع مجازر على بعد أمتار قليلة من الحواجز الأمنية، بيد أن أصدقاءه لم يشاطروه الرأي واعتبروا أن سبب تلك المذابح في حق أهالي المنطقة هو فعل انتقامي ومردّ ذلك هو انضمام المئات من شباب هذه القرى إلى صفوف قوات الأمن.
محجوبة .. أول قتيلة في المدينة
بعد استراحة دامت ساعتين مع سكان بني سليمان، حملنا حقائبنا باتجاه إحدى القرى المجاورة التي قدمت أول ضحية إرهاب، فبعد ربع ساعة من السير بالحافلة وصلنا قرية "بورفو" التابعة إلى بلدية بئر بلعابد والبعيدة عن بني سليمان ب 5 كلم، وجدنا في انتظارنا بعض الكهول، ممن كانوا شهودا على تلك المرحلة.
ففي إحدى ليالي شهر رمضان من سنة 1994 سقطت ورقة "محجوبة" من شجرة الحياة من طرف جماعة إرهابية قامت بذبحها ببيتها، بعد انتشار دعايات حول نشاطها المشبوه في الشعوذة، وهو ما دفع الجماعات الإرهابية بقتلها، بعدما بلغتهم أخبارها من جواسيس ومخبرين كانوا ينشطون في كل القرى.
ويروي "محمد" بحرقة ما حدث في تلك الليلة السوداء مع الفقيدة وما تبعها، حيث قامت تلك الجماعة أيضا بالتوجه، قبيل صلاة العشاء، إلى مسجد الهدى بالقرية الذي كان يشرف على إمامته الإمام مسعود، الذي كان مصيره تلك الليلة، الجلد والضرب بسبب تمزيقه لإعلان كان معلقا بالمسجد.
وبحسب السكان، فان الإمام قام بتمزيق الإعلان بدعوى أن المسجد هو مكان للعبادة وبعيد عن كل ما هو سياسي، ويضيف أهل المنطقة، أن الجماعات الإرهابية، كانت، في تلك الفترة، تقوم بنشر إعلانات، تحمل فتاوى تمنع على السكان تعاطي التبغ والتدخين بحكم أنها محرمة شرعا، ويتم تعليقها في الساحات العمومية والمسجد.
المرابطين.. القرية التي ضحت مرتين
في منتصف مساء ذلك اليوم، صعدنا نحو الأعالي، بالضبط إلى قرية المرابطين، البعيدة عن قرية "بورفو" ب4 كلم عبر مسلك ترابي كان أهالي القرية يعبرون منه على دوابهم للتسوق من إحدى البلديات القريبة وكان أيضا ممرا لأطفال القرية الذين كانوا يقطعون كل هذه المسافة مشيا على الأقدام باتجاه المدرسة.
يتذكر "يوسف" تلك السنوات التي كان يقطع فيها كل تلك المسافة وحجم المعاناة التي كان يكابدها أبناء قريته، غير أن النجاح في الدراسة وتحقيق حياة أفضل بعد سنوات من العمل، جعل كل هذه التفاصيل مجرد ذكريات جميلة، إلا أن المؤلم منها، يقول، ما علق بذهنه من مجزرة كان والده احد ضحاياها.
وقبل أن يغوص معنا "الحاج توهامي" في تفاصيل تلك الحادثة، التي عايشها، عادت به الذاكرة للوراء، إلى أيام الثورة المظفرة التي كانت هذه المنطقة احد قلاعها التاريخية، وعلى الرغم صغرها إلا أنها قدمت 49 قتيلًا من أبناءها من اجل أن تحي الجزائر حرة مستقلة .
ويتابع "توهامي" الذي يقف على أعتاب الستين، أن العدد نفسه الذي قدمته القرية من رجالها في سبيل تحرير البلاد قدمته أيضا خلال العشرية السوداء، فاستشهد 49 شخصا من القرية، بينهم 36 شخصا في ليلة واحدة تم ذبحهم في شهر يناير الذي صادف شهر رمضان من سنة 1997.
ولحد الساعة، لازال سكان القرية يجهلون سبب قيام هذه الجماعة الإرهابية بارتكاب المذبحة الجماعية في حق مواطنين عزل، بينهم "مجاهدون" طاعنون في السن، في حين يرجح البعض أنها كانت منطقة عبور، ما يضعها تحت تهديد الجماعات في أي لحظة، والملفت للانتباه هو أن القرية تتوسط حاجزين للأمن على بعد كيلومترين فقط.
مدرسة واد حلابة.. ذبح المعلم في سرية العلم
في غمرة الحديث عن المجازر، ذكر احدهم قصة المعلم الذي ذبح في سرية العلم، غير انه لم يكن يعلم التفاصيل كاملة مما وسع بداخلنا رغبة الفضول لمعرفة تفاصيل أكثر، قررنا بعدها التنقل إلى مكان الحادثة، قبل أن تختفي الشمس ويرخي الليل سدوله، بعد 40 دقيقة كنا في عين المكان.
مدرسة "واد حلابة"، مؤسسة تعليمية أنجزتها الدولة على قارعة الطريق المؤدي إلى مركز الراحة التابع لوزارة الشباب والرياضة الواقع في جبل مغطى بالأشجار الكثيفة، وكان يدرس بهذه المدرسة التي وقفنا أمام أبوابها المقفلة، في ساعة متأخرة من الليل، بحثا عن تفاصيل القصة المأساوية، وأحيانا يأتيك الحظ.
لفت وجودنا أمام المدرسة انتباه احد المارة والذي تبين، من خلال الحديث معه، انه كان زميل "دبازي" المعلم الذبيح، يقول "رشيد" أن مجموعة من الإرهابيين تسللت ذات صباح من سنة 1997 إلى المدرسة، أين كان المعلم "دبازي" منشغلا بالدرس مع تلامذته، فدخل عليه اثنين وقاما باصطحابه إلى قسم مجاور رفقة زميليه آخرين.
لكن النقاش كان محصورا بين المعلم والمجموعة الإرهابية، بعدها قاموا بالانفراد به طيلة ساعتين من الزمن، مما ينذر بأنهم لم يتوصلوا إلى اتفاق ما حول قضية ما، لكن الأمر تطور بعدها ليتم سحبه إلى سرية العلم التي تتوسط ساحة المدرسة ويتم ذبحه بطريقة بشعة.
ويرجح "رشيد"، الذي خانته دموعه، أن ما دار بينهم، كان حول مطالبته بالالتحاق بهم في الجبل وترك التدريس وخاصة أن المعلم عرف بأخلاقه ومحافظته، وهذا ما يكون قد رفضه المعلم ليتم الانتقام منه وتصفيته، وتغلق المدرسة نهائيا بعد تلك الحادثة، ويحرم التلاميذ من الدراسة طيلة أعوام.
ماذا حدث في الليلة المشؤومة بواد الشواردية ؟
بعد قضاء ليلة في بني سليمان، غادرنها صباحا باتجاه قرية "شواردية"، التابعة إداريا إلى دائرة "خميس نعمان"، وهي من بين القرى التي طاولتها أيادي الإرهاب الغادر في إحدى ليالي 1997، ومارسوا على سكانها كل أنواع القتل بين ذبح وتنكيل بجثثهم، فضلا عن سبي نسائهم.
وليس من السهل أن يفتح لك سكان شواربية قلوبهم للكلام في ذكريات يحاولون دفنها، بيد انه بعد أن اطمئنوا لنا قصوا علينا حادثة مؤلمة تبقى راسخة في الأذهان تتعلق بتصفية اغلب سكان القرية في ليلة سوداء ولم يسلم منهم إلا عدد قليل، قام فيها مجموعة إرهابية بقطع التيار الكهربائي عن القرية لتبدأ المذبحة.
يحدثنا "عمي السعيد" أحد ناجيين من المجزرة، عن فصولها، بقوله انه قبل الحادثة بأيام، كانت قوات الأمن قد طلبت من السكان الرحيل من القرية باتجاه مناطق أخرى أكثر أمنا، وفي اليوم الذي كانت تستعد فيه العائلات بالمغادرة، هجم مجموعة مسلحة على القرية وحولتها إلى مستنقع من الدماء، وسبوا ثلاث نساء.
وبعد قطع التيار الكهربائي ليلا، يضيف عمي سعيد، طلبوا من السكان الخروج من منازلهم والالتحاق بالساحة العمومية، كما جرت العادة، فقد كانت هذه الجماعات تجتمع بالسكان وتلقي عليهم تعليمات تتمثل في تحريم مشاهدة التلفزيون حتى ينقطعوا عن العالم الخارجي، غير أن الاجتماع هذه المرة، كان مختلفا عن سابقيه.
أولاد العربي.. عنوان للتصفية والسبي
ويمر بجانب القرية واد يسمى "واد المالح" الذي يفصلها عن قرية "أولاد العربي"، انتقلنا للضفة الأخرى من الوادي لنسمع قصة أخرى من القصص الدم التي لم تنته طيلة وجودنا في هذه الأماكن، فكل شبر من هذه الأراضي يحمل قصة عن تلك الحقبة السوداء التي كان ضحيتها الأول المواطن البسيط.
بعد مرور حوالي ثلاث أشهر عن مجزرة واد الشواربية، نفذت جماعة مسلحة، بالطريقة نفسها،عملية مماثلة أودت بحياة 29 شخصا من أهالي القرية، معظمهم يحملون لقب عائلي "مهدي"، كما تم أيضا سبي ثلاث نساء، وجدوا فيما بعد مقتولين في إحدى الغابات القريبة من القرية.
ويتحدث "اسماعيل" عن تلك المجزرة بكثير من الحزن وكأنها نارها لم تبرد بعد في صدره، مشيرا إلى أن اغلب من قتلوا من عائلات هاجرت من قرية "فرايحية" إلى قرية أولاد العربي، هروبا من بطش الإرهاب وحفاظا على حياتهم، إلا أن لعنة الموت طاردتهم إلى هذا المكان وترتكب في حقهم إبادة شنيعة.
وسبب قرار ترحيل تلك العائلات هو أن بقرية أولاد العربي كانت توجد ثكنة للحرس البلدي وبالتالي تتمتع بنصيب من الأمن والأمان، غير أنها لم تكن بمنأى عن التهديدات الإرهابية، لأنها كانت قريبة من "الغابة الكحة" وهي مكان كانت تتخذه هذه الجماعات معقلا لها.
ويتذكر السكان أيضا ما قامت به هذه الجماعات من أبشع صور التنكيل، وما قصة ذاك الرضيع صاحب سبعة أشهر خير دليل يستشهد به كل من تحدثنا إليهم، أين قام مجموعة من الارهابين بتعلق رأس الرضيع في المنزل بعدما تم دق رأسه بمسمار .
للانتقام نصيب في أهل الشعبة
تتعدد القصص المأساوية من منطقة إلى أخرى وتختلف التفاصيل وحتى ولو تشابهت في النتيجة، ولكل قرية من هذه القرى المترامية على هذه التلال والمتناثرة كالفطريات، تقرأ معاناة أهاليها مع فترة العشرية السوداء نظرا لحجم وعمق الضرر التي تسببت فيه المأساة.
غير بعيد عن" أولاد العربي"، توجد قرية أخرى تسمى قرية "أهل الشعبة"، وتعلق بذاكرتهم قصة تلك العائلة التي تم تصفيتها من قبل جماعة إرهابية بسبب انضمام شاب كان تقدم لخطبة ابنتهم، إلى صفوف قوات الحرس البلدي.
ففي يوم من أيام سنة 1996، يقول "رابح"، دخلت مجموعة إرهابية إلى القرية مدججة بالسلاح، واقتحموا إحدى المنازل، واخرجوا شابة في مقتبل العمر رفقة والدتها، وقاموا بقتلهما وتقطيع رأسيهما وتعليقهما في محطة توقف الحافلات بمنطقة سيدي العكروت التي تبعد عن القرية بأقل من كيلومتر واحد.
بعدها، قامت هذه الجماعة برمي جثتهما على قارعة الطريق، وهي الصورة التي لم تتمكن سحب الزمن أن تمحوها من ذاكرة "محمد" واحد الشباب الذين شاهدوا ذلك المنظر المرعب لما كان يدرس في مرحلة الابتدائية.
الزواج على الطريقة الإرهابية
لم تنهكنا الطرق ولا المسافات ونحن نتجول بين القرى والمداشر بقدر ما أنهكتنا تلك القصص المأساوية التي تؤكد بان ساكنة هذه المناطق عاشوا سعير جهنم في تلك الفترة التاريخية من عمر الجزائر وتؤرخ لصفحة من الماضي الذي لوثته سنوات الجمر.
بين القريتين سالفا الذكر، تقع بلدية "بوسكن"، التابعة إداريا إلى دائرة بني سليمان، بينما نحن نجلس في إحدى مقاهيها لنأخذ قسطا من الراحة، ظهر أن هذه البلدة الهادئة شهدت هي الأخرى قصة لا تقل أهمية عن باقي القصص المذكورة.
فهذه البلدية استيقظت ذات يوم من أيام 1997، على حادثة مؤلمة، لما دخل إرهابي من المنطقة رفقة مجموعة مسلحة إلى بيت عائلة معروفة بالمنطقة وطلب من صاحب البيت أن يزوجه ابنته التي كان يحبها.
غير أن الوالد رفض بشدة هذا الطلب وهرب رفقة ابنته من مسكنه الواقع في مدخل المدينة باتجاه وسط المدينة محاولا تهريب ابنته وتخليصها من هذه الورطة، لكن الجماعة استطاعت الإمساك بهما وخطفت الفتاة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، يقول "حليم"، بل فجروا قنبلة تقليدية بداخل المقهى التي كان يمتلكها والد الفتاة مما أسفر عن سقوط العديد من الضحايا وعادوا إلى منزله وفجروه أيضا وقتل على أثرها شقيق الفتاة.
يومان قضيناها في تلك المروج التي تخضبت بدماء من قضوا في ثورة التحرير والعشرية السوداء، وتوحي ملامح القرى التي تشققت جدرانها من الألم والبطش الذي تعرض له أهلها، تحكي قصصا مرعبة عن مرحلة تاريخية أليمة، كادت أن تعصف بالبلاد، لكنها تبقى شاهدة على وحشية المجازر المرتكبة.
تركنا المنطقة وأهلها، الذين قلبت رياح أسئلتنا مواجعهم من جديد وتحركت بفعلها أزرار الحزن الذي تأقلم مع تجاعيد اليأس والحزن والأسى المرسومة على وجوههم، إلا أن قلوبهم توشحت البياض عندما تعلق الأمر بمشروعي الوئام والسلم والمصالحة، وكان شعارهم فيها "عفا الله عما سلف".