الجزائر (CNN)-- مضى ربع قرن عمّا يعرف بـ"انقلاب 12 يناير/كانون الثاني" 1992 في الجزائر، بعدما قرر المجلس الأعلى للأمن إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية، التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ (الفيس) بالأغلبية، وغيّر هذا الحدث التاريخي مجرى الأحداث في الجزائر وخلّف تركة أمنية وسياسية واقتصادية لازالت تداعياتها قائمة إلى اليوم.
وسبق اتخاذ هذا القرار الذي سمي وقتها بـ"توقيف المسار الانتخابي"، إجبار الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة من طرف مجموعة من الجنرالات، رأوه واجبا وطنيا، يُحتم عليهم التدخل لإنقاذ الدولة من وصول إسلاميين متطرفين إلى الحكم، غير أن هذا القرار، كانت له عواقب وخيمة على البلاد.
وأمام تضارب الآراء وتناقض الكتابات التاريخية، يجد الشباب الجزائري نفسه تائها بين روايات عديدة لحقبة تاريخية مهمة من تاريخ الجزائر، وعلى هذا الأساس، حاولت CNN بالعربية، تسليط الضوء على هذا الحدث التاريخي، الذي اعتبره المؤرخون منعرجا تسبب في انحراف المسار الديمقراطي عن سكته التي وضعت قاعدتها أحداث أكتوبر 1988 .
الأزمة الاقتصادية وأحداث أكتوبر 1988
منذ استقلالها سنة 1962، انتهجت الجزائر النظام الاشتراكي، تماشيا مع تشبع زعمائها بالفكر اليساري الثوري، بيد أنه بعد وفاة الرئيس بومدين وتسلم الرئيس الشاذلي بن جديد مقاليد الحكم، وما سبقها من أحداث، بدأت تظهر بوادر الأزمة الاقتصادية إلى أن انخفض سعر النفط سنة 1986 من 30 دولار إلى أقل من 10 دولار.
وأمام هذا الوضع، قرر الشاذلي بن جديد تبني سياسة جديدة للخروج من الأزمة، من خلال تشجيع القطاع الخاص، لكن هذا القرار قوبل بالرفض من طرف الشعب، وأخذت الأحداث تتطور حتى تصاعد الغضب وخرج (أخرج) الشعب إلى الشارع، واندلاع أعمال عنف في أكتوبر/تشرين الثاني 1988.
وأسفرت تلك الأحداث ، بحسب أرقام غير رسمية، أكثر من 500 قتيل، بسبب استعمال المصالح الأمنية القوة العمومية في إعادة استتباب الأمن، كما تم اعتقال ما يقارب 4 آلاف شخص يُشتبه في تورطهم في أحداث العنف والتخريب التي طالت العديد من المؤسسات العمومية.
إطلاق الإصلاحات وتنظيم الانتخابات المحلية والتشريعية
عقب الأحداث، أطلقت حكومة مولود حمروش حزمة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، شجعت على حرية الرأي والتعبير واستقلالية الصحافة والانفتاح السياسي والتعددية الحزبية، من خلال دستور جديد يكرّس الحريات، ومن الأحزاب التي تم اعتمادها، آنذاك، الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
وفي سنة 1990، نظمت أول انتخابات للمجالس البلدية الولائية، في مرحلة التعددية والانفتاح السياسي، وأفرزت نتائجها عن فوز ساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ على حساب عدة أحزاب، منه الحزب التاريخي "الأفلان"، وتحصل "الفيس" على أكثر من 950 مجلس بلدي من أصل 1539 بلدية و32 مجلس ولائي من أصل 48 مجلس ولائي.
وبعد صدور نتائج الانتخابات المحلية، أجرت الحكومة تعديلات على قانون الانتخابات، ونظمت بعدها انتخابات تشريعية في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991 ، وفازت في الجولة الأولى من الانتخابات، الجبهة الإسلامية للإنقاذ بـ 188 مقعدا بنسبة تمثل 82 في المائة من مقاعد البرلمان، هذا الأخير، صدر قرار رئاسي بحله في 4 يناير 1992.
استقالة (إقالة) الرئيس والطريق إلى الانقلاب
فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم ينل رضا الجنرالات وبعض الطاقم الحكومي، وقام قادة الجيش، آنذاك، وفقا للكثير من الكتابات التاريخية، ،بالضغط على الرئيس الشاذلي بن جديد ودفعه إلى الاستقالة، وتُبين شهادة وزير الدفاع السابق خالد نزار، أن رسالة الاستقالة خطها قادة عسكريون وتلاها الرئيس أمام الشعب في 11 يناير 1992.
وفي عشية اليوم الموالي، صدر قرار من المجلس الأعلى للأمن، يقضي بـ"وقف المسار الانتخابي إلى حين استتباب الأمن وعودة الاستقرار وتوفر ظروف الممارسة الديمقراطية"، و إلغاء الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، ثم قرر أعضاء من الحكومة تشكيل المجلس الأعلى للبلاد (غير دستوري)، وعين على رأسه محمد بوضياف، بصلاحيات رئيس.
كيف ردّت الجبهة الإسلامية على القرار؟
في تلك الأثناء، صدر بيان من قيادة (الفيس) موقع من رئيس المكتب التنفيذي المؤقت "عبد القادر حشاني"، يدعو فيه "الشعب لحماية مشروعه واختياره ورفض كل مؤامرة تهدف إلى مصادرة إرادته وتعطيل مسار التغيير"، ومطالبته "التحلي باليقظة والحذر والاستعداد لكل الاحتمالات والطوارئ التي تمليها المصلحة العليا للإسلام والجزائر".
وجاء في البيان أيضا، أن "استقالة الرئيس غير دستورية وما هي إلا فصل من مؤامرة شاملة تفسح المجال لتنفيذ الجريمة في حق الجزائر والمشروع الإسلامي، وقبول المجلس الدستوري للاستقالة مؤشر على أن البلاد في قبضة طغمة حاكمة بدون شرعية"، مبينا أن "المجلس الأعلى للأمن إن هو إلا هيئة استشارية بنص الدستور فلا يحق له أن يتولى مقاليد البلاد".
ومع حالة الاحتقان، التي كانت سائدة، آنذاك ، دخلت الجزائر في نفق مظلم وتسارعت الأحداث بدخول البلاد في مرحلة عنف، دامت لمدة عشرين سنة، دفعت من خلالها الجزائر الآلاف من الضحايا، إلى غاية نهاية التسعينات، أين بدأت الأوضاع تعرف استقرارا وعاد بعدها السلم والأمن بعد تطبيق ميثاق السلم والمصالحة.
اعتراف رسمي متأخر
اعترف الجنرال المتقاعد محمد تواتي، في مقابلة تلفزيونية مع "فرانس2"، أن "المجلس الأعلى للأمن، الذي يتكون من وزارة الدفاع وقيادة أركان الجيش ووزير الخارجية ورئيس الحكومة وشخصيات أخرى، هو الذي قرر توقيف المسار الانتخابي بعد فوز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية مقاعد المجلس الشعبي الوطني، والجيش وافق على القرار".
وقال تواتي إن "توقيف المسار الانتخابي يتعلق بقضية وعي، لقد كنا مجموعة من الضباط والشخصيات المدنية، لم نكن نرغب في رؤية الجزائر تغرق في نظام ديني"، لافتا أن "قرار وقف المسار الانتخابي كان سببا وراء توسع دائرة الإرهاب".