هذا المقال بقلم د.رشيد جرموني، ولا يعبّر عن رأي CNN.
-- على خلاف كل التوقعات التي كانت تثار في الآونة الأخيرة في قضية أزمة تشكيل حكومة السيد عبد الاله ابن كيران، والتي كانت تتجه إما إلى إدخال تعديل دستوري في الوثيقة الدستورية خصوصا في الفصل 47 الذي ينص صراحة على أن رئيس الحكومة يعين من طرف الحزب الذي يتصدر نتائج الانتخابات البرلمانية. أو من خلال الدعوة إلى انتخابات سابقة لآوانها، بما يعنيه ذلك من حل للبرلمان، وإعفاء رئيس الحكومة المعين، فإن بلاغ الديوان الملكي الصادر عشية يوم 15 مارس 2017، فاجأ الجميع، وخلق جوا من النقاش والجدال بين المتابعين للحقل السياسي المغربي ولمجرياته، بل أكثر من ذلك فجر حركية سياسية وإعلامية كبيرة بدليل التغطيات العالمية للحدث والتعليق عليه من طرف الخبراء والباحثين والمهتمين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن بلاغ الصادر عن الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية في اليوم الموالي 16 مارس، خلق بدوره نقاشا عميقا حول تموقع الحزب بعد نص البلاغ الملكي.
وفي حين، ونحن نتابع مجريات الأحداث، وفي انتظار ما ستسفر عنه الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، بتوسعة التشاور في موضوع بلاغ الديوان الملكي، إذا بالتعيين الملكي لشخصية سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة يوم الجمعة 17 مارس، يشكل بدوره الحدث السياسي الأبرز في الساحة المغربية. فماهي دلالات هذه الأحداث؟ وكيف يمكن قراءتها في ضوء ما أسفرت عنه سلسلة المشاورات-التي قادها الاستاذ عبد الاله بنكيران- و التي دامت أكثر من خمسة أشهر؟ وما هي المؤشرات الجديدة التي برزت في علاقة القصر بحزب العدالة والتنمية؟
بداية لا يمكن قراءة مجمل الأحداث والبلاغات والبلاغات المضادة والتعيين الملكي لرئيس الحكومة،والذي تم في الاسبوع الذي نودعه، بدون أن نربط الكل بسياقه الذي برز فيه. فالأكيد أن الحقل السياسي المغربي يخضع بدوره لعقلانية واستراتيجية في أداء فاعليه، سواء كانوا من الأحزاب أو من الفاعل الرسمي. وعلى الباحثين والمتتبعين أن يحاولوا قراءة هذه الاحداث وفق هذا المنطق العقلاني. فلا شيء خاضع للصدفة أو للاحتمالات غير المحسوبة. وعليه انطلاقا من هذه المسلمة، يمكن محاولة فهم ما جرى باعتباره يدخل في سيرورة من السيناريوهات التي وضعت للوصول إلى هذه النتيجة (والتي نقصد بها تحديدا، التخلي عن شخص بنكيران واستبداله بشخص سعد الدين العثماني). ومن بين هذه المؤشرات التي نعتمدها في قراءتنا المتواضعة، هو ما ورد في بلاغ الديوان الملكي، والذي يؤكد على مسؤولية شخص السيد بنكيران في عدم تمكنه من تشكيل الحكومة رغم مرور أكثر من خمسة أشهر، بل والأهم في البلاغ، هو التنصيص أنه لا توجد مؤشرات على نجاحه في مهمته. فهل يتحمل بنكيران مسؤولية في ذلك؟ وهل الأمر مرتبط بشخص أم بخيار حزب؟ هذه الاسئلة وغيرها قد يطرحها أي متتبع لهذا المسار.
والحاصل بكل موضوعية أن الذين تتبعوا مسارات المشاورات في تشكيل الحكومة، تبين لهم حجم المناورات التي وضعت في وجه رئيس الحكومة المعين بنكيران. فمرة يطلب منه أن يتخلى عن حزب الاستقلال، ومرة يطلب منه أن يقحم أحزاب لا علاقة لها بالتحالف الحكومي السابق، مثل أحزاب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاتحاد الدستوري. ومرة أخرى، يتم استعمال آلية فرض الواقع، بتنصيب رئيس مجلس النواب (الحبيب المالكي) ممثلا للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في تناقض تام بين منطق الأغلبية الحكومية والمعارضة، بحيث أصيب المتتبع والملاحظ والمواطن العادي بحيرة في فهم ما يجري في هذا المشهد السياسي السرليالي.
لكن كل ذلك قابل للفهم والتحليل، إذا ما عدنا لأصل العقدة التي خلقها حزب العدالة والتنمية وشخصية عبد الاله بنكيران في الحياة السياسية مؤخرا. حيث تبين من خلال أداء شخصية بنكيران سواء داخل الحكومة او في الحزب، أنها شخصية قوية وذات كاريزما مؤثرة ولها قدرات تواصلية هائلة مع عموم المواطنين والمواطنات، وبما يخترق كافة الشرائح الاجتماعية. ولكي نتحدث بلغة الأرقام والمعطيات (رغم أنها تبقى تقريبية)، فإن حجم المتابعين لتدخلاته ولمهرجاناته الانتخابية أو غيرها، يبين ذلك. فحوالي أكثر من 4 ملايين و800 ألف مواطن ومواطن كانت تتابع لقاءه الشهري في البرلمان، هذا ناهيك عن نسبة المتابعة التي يحظى بها في مختلف الوسائط الالكترونية الأخرى من (فايسبوك وتويتير وغيرها)، والتي تعتبر مؤثرة في ترسيخ شخصية بنكيرانفي الرأي العام الوطني.
ويمكن إضافة مؤشر آخر وهو نسبة المتابعين للمهرجانات الخطابية التي أطرها السيد بنكيران في الاستحقاقات الأخيرة (2015 و2016)، حيث نذكر على سبيل المثال لا الحصر، أن مدينة طنجة عرفت حضور أكثر من 60 ألف شخص، وهو عدد الذين صوتوا لفائدة الحزب في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (2016). أو تارودانت (40 الف شخص) أو العرائش (30 ألف) بمعنى أن العدد الذي يحضر للمهرجانات هو الذي يصوت في النهاية لفائدة هذا الحزب. ولهذا فقد حمل بلاغ حزب العدالة والتنمية الصادر يوم 16 مارس 2017، أنه يعتز بالجهود التي بذلها الامين العام، السيد عبد الاله بنكيران، وبأنه لا يتحمل أية مسؤولية في تعثر تشكيل الحكومة، بل أرجع ذلك، إلى سلسلة "الاشراطات المتلاحقة لبقية الاحزاب".
فما هي دلالات ذلك؟ لا شك أن كلما كان عدد الحشود التي تتابع وتهتم بشخص معين في الحياة السياسية أو الرياضية أو الفنية، إلا ويكون تأثير ذلك على شهرة هذا الشخص وحضوره وتموقعه في الحقل الذي يهيمن فيه. والحاصل أن شخصية بنكيران استطاعت أن تحقق ذلك في المشهد السياسي المغربي المعاصر، إذ لا يذكر المغاربة رئيسا للحكومة مثلما يذكرون بنكيران. ولعل في ذلك ما يشكل ازعاجا لبعض الأطراف في الدولة العميقة، والتي تعتبر ذلك مؤشرا على انقلاب في موازين السلطة والسلطة المضادة. إذ أن "هابيتوس l’habitus" السلطة بالمغرب، لا يريد أن يكون هناك شخص أو زعيم سياسي له مثل هذا الحضور والحظوة والاهتمام والجدل.
وبالتالي تم التفكير في سيناريوهات طرق وأساليب للتخلص منه، بدءًا من الحملة المسعورة في الاعلام التي عرفها المغرب في الخمس سنوات الأخيرة، وبعدها في التأثير في مجريات الانتخابات البرلمانية، وعندما لم تنجح هذه الأساليب، تم الانتقال إلى مستوى التأثير في تشكيل الحكومة، وهنا لا يمكن أن نتجاهل ما وقع يوم 8 أكتوبر من سنة 2016، عندما التأمت بعض الاحزاب السياسية لكي تعرقل مهمة السيد عبد الاله بنكيران. ولعل تمرد حزب الاستقلال ورفضه الانصياع لهذا السيناريو هو ما دفع بعض الجهات التحكمية إلى المناورة على سيناريوهات أخرى. ومنها بطبيعة الحالانتخاب رئيس مجلس البرلمان من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ولهذا فهذا المقلب لا ينطلي على أحد.
إذن من خلال هذه المعطيات و-التي تبقى غير كافية بشكل كبير- لتشكيل صورة عن علاقة التوتر بين أطراف في الدولة العميقة وبين شخصية عبد الاله بنكيران، ومن وراءه حزب العدالة والتنمية، يمكن فهم خلفيات البلوكاج في تشكيل الحكومة، وبالتالي، فإن بلاغ الديوان الملكي، توقف عند هذا المعطى لكي يستعيض عنه بشخصية أخرى من داخل الحزب، رغم أن البلاغ يشير إلى أنه كانت هناك خيارات أخرى في يد الملك كان من الممكن التفكير فيها. ولعل في ذلك إشارة قوية إلى أن الدولة لا تزال في حاجة إلى حزب العدالة والتنمية –نظرا لما يتمتع به من شعبية ومن نظافة اليد ومن وطنية صادقة- وأيضا بشكل كبير لأن الدولة لا تريد أن تدفع هذا الحزب للتخندق في صف المعارضة، بما يعينه ذلك من تداعيات على الحياة السياسية ورفع لمستوى النقاش السياسي في العديد من القضايا، وربما في توسيع دائرة الالتفاف الشعبي لهذا الحزب. كل ذلك جعل القرار يتجه إلى نزع فتيل التوتر بإزاحة الشخصية /العقدة (بنكيران) والتفكير في شخصية أخرى أقل حضورا على المستوى الرمزي من سابقيه.
بيد أن سرعة التعيين للأستاذ سعد الدين العثماني، جعل البعض يتساءل: لماذا لم يتم إمهال الحزب حتى يعقد مجلسه الوطني؟ هل كانت هناك تخوفات من أن يصدر المجلس موقفا أخر غير التعامل الايجابي مع بلاغ الديوان الملكي؟ أم أن سرعة التعيين كانت تريد أن تقول للجميع، أن هناك خطوط حمراء لا تتوقف عندها مبادئ سيادة الحزب على قراراته؟
على العموم لا نملك الجواب على كلتا الفرضيتين، لكن المؤكد أن الفاعل الملكي، استبق الأمور في اتجاه ضمان بقاء حزب العدالة والتنمية في الحكومة، وبشكل أكثر دلالة إبراز أن الحياة السياسية المغربية في المدى المتوسط، لا تزال تحتاج لخدمات هذا الحزب (بدليل رسالة الملك لكل أعضاء الحزب)، بالرغم مما يبدو من توتر بين الفينة والأخرى في المواقف والاحداث والبلاغات، لكن المؤكد أن الملكية أخذت بالاتجاه الوسط في تدبير هذه الأزمة الحكومية، فلا هي فرطت في الحزب الأول، وبالتالي لم تحد عن مضمون وفحوى النص الدستوري، ولا هي دفعت في اتجاه الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، بما يمكن أن تخلقه من مفاجئات تحديات، ولا هي أيضا أعطت للحزب فرصة الارتماء في صف المعارضة.
وربما يمثل اختيار شخصية سعد الدين العثماني، أحد الاحتمالات التي كانت مطروحة منذ مدة، لكون يتمتع بخصال تجعله يزيح التوتر الحاصل بين الحزب وبقية الأطراف السياسية الأخرى. فهل سينجح السيد سعد الدين العثماني في مهمته؟ أو بالأحرى، هل ستزال أمامه تلك الاشراطات التي وضعت في وجه سلفه السيد عبد الاله بنكيران؟ وما هو حجم حضور حزب العدالة والتنمية في الحكومة المرتقبة؟ وما هي الاحزاب التي سيتحالف معها الحزب؟ وهل ستبقى في دائرة التحالف الحكومي السابق؟ وما موقع الاستاذ بنكران في هذه التشكيلة الحكومية؟ كلها أسئلة ستفرج عنها الأيام المقبلة. ولنا عودة للموضوع عندما يتشكل المشهد الحكومي الجديد.