هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
أكتب هذه السطور على وقع قرار المحكمة العليا في أميركا الذي جاء لصالح الأمر الرئاسي التنفيذي الخاص بتشديد التدقيق الأمني على الراغبين بزيارة أميركا أو الهجرة إليها من سبع دول، خمس منها تقطنها غالبية مسلمة. القرار جاء بفارق صوت واحد لصالح إقرار حق الرئيس الأميركي بتقدير الأمور لما فيه مصلحة البلاد والأمة الأميركية من الناحية الأمنية بصرف النظر عن اتهامات – أراها غير صحيحة وغير دقيقة وغير منصفة – باستهداف القرار المسلمين دون سواهم. فالمسألة تنحصر بعدم ثقة المؤسسات الأمنية الأميركية بما يصدر عن حكومات 7 بلاد من تقديرات أمنية. هذا حق سيادي لا يختلف عليه منصفان.
ومما زاد من زهو الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقرار المحكمة العليا، أنه جاء في خضم حملة وزارة العدل الأميركية الخاصة بترحيل كل من دخل البلاد بصورة غير شرعية أو تجاوز تأشيرة الدخول إليها دون تسوية أوضاعه على نحو قانوني ابتغاء التهرب من الضرائب والانفلات من أمور قانونية أخرى تترتب على المواطن الأميركي بصفته في المقام الأول دافع للضرائب وله كلمته الحرة في تحديد من يمثله في سائر مناحي الحياة المدنية والسياسية.
وكما تحدث عشية انتصار المحكمة العليا لقراره في لقاء دعم لمرشح جمهوري في ولاية ساوث كارولينا، لخّص ترامب ما يريده بفرض حدود بلاده بما يبقي الجريمة خارجها. هنا يتحدث عن إغراق ولايات بأكملها بالهروين وفظائع الجريمة المنظمة كالمعروفة اختصارا ب"الإم إس ثيرتين" إحدى أبشع المنظمات الإجرامية التي عرفها العالم. شهادات كثيرة مؤثرة تحدثت عنها بالدموع أسر مكلومة فقدت أحبتها على أيدي هؤلاء المجرمين الذين سبق وأن حكموا وتم إبعادهم دون جدوى.
في المقابل تناقلت وسائل الإعلام على اختلاف توجهاتها السياسية، مشاهد وروايات تدمي القلب لأطفال تم الفصل بينهم كأميركيين بحق المولد على التراب الأميركي وذويهم غير القانونيين. ما من إنسان متحضر سويّ العقل والوجدان يستطيع إغفال الآلام التي تترتب عن إنفاذ القانون بصرف النظر عن اتفاقه أو اختلافه مع مبررات القرار القضائي الأخلاقي أو الأمني السيادي.
لو افترضنا جدلا أن من حق العالم بأسره وأمم الأرض الامتعاض من سياسة ترامب في هذه الخصوص، تستوقفني كثير من المشاهد الحقيقية لا الافتراضية، عندما يكون الناقد والمحتج متخفيا وراء ادعاءات "قومية ودينية".
من المجحف عقد أي مقارنة بين المنتقدين من وراء البحار، لكنه من المفيد لغاية إثراء النقاش ووضعه في سياقه الصحيح، التساؤل عن مدى أحقية الرافض لكل ما تمثله أميركا في الحصول على جنسيتها ومزاحمة ومطاردة الفارين من جحيم ظلاميته وعنصريته إلى العالم الحر طلبا للعيش والأمان. من الأمور التي يرفع فيها هؤلاء من عقيرة صراخهم وانتقادهم الاحتجاج على ما يعرف صحافيا وأمنيا بقراءة ما وراء السطور وربط العقد بعد مسك الخيط الكفيل بكشف خفايا النفوس. إن منصات التواصل الاجتماعي لا بل وكل القاعدة المعلوماتية التي يوفرها جمع "الميتا داتا" ومن ضمنها ما يتم رصده من التراسل النصي الهاتفي وسجل المكالمات، جميعها مصادر مشروعة للتعرف على من تريد أن تطمئن على حياتك في جواره لا بل وقد توكل إليه إن صار مواطنا أمن حياتك وحياة أسرتك.
المسألة ليست بسيطة فهي في غاية التعقيد وتتطلب قدرات بالغة في التطور والتعقيد حيث تدخل اللغة واللهجة إلى جانب التصريح والتلميح ضمن معادلة قراءة ما يشبه أن يكون قراءة الكف! كان ذلك في ظل إدارة الرئيس السابق باراك حسين أوباما ضمن سعي فريق إدارته الديمقراطية إلى محاربة انتشار "التطرف العنيف" عبر تويتر الوسيلة الأكثر استخداما من قبل عصابة داعش الإرهابية.
من المنصف أيضا الإشارة إلى إقرار مؤسسات اقتصادية وحتى تعليمية باعتبارها منصات التواصل الاجتماعي من ضمن معايير التعرف على المتقدمين للوظائف والمنح الدراسية، حتى أن الهيئة التعليمية في السنوات الأخيرة قبل التخرج من المدرسة، سارعت إلى تنبيه الطلبة إلى أهمية ما تحمله سلوكياتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي من فرص الرفض والقبول في المقبل من الأيام.
أخيرا، فإن أكثر دول العالم تسامحا وتراخيا في معايير الزيارة والإقامة والتجنيس، ستبقى متشددة أمام ما تسعى أميركا إلى فرضه عبر سياسة تشديد التدقيق الأمني. هذه أمة مهاجرين، تريد أن تبقى كذلك. أمة تنصهر في بوتقتها الأفراد والأسر والشعوب. وكسائر عقود المعاملات في الدنيا، فإن طلب الزيارة أو الإقامة أو الجنسية لا يخرج عن إطار كونه طلبا يدرس بعناية ويبت فيه استنادا إلى قواعد وضوابط ومعايير لا إلى انطباعات وأهواء وأغراض. هي في المحصلة عرض وقبول من جهة، وإيجاب وقبول من جهة أخرى. هذه هي المعادلة باختصار. أشبه ما تكون بتعاقد اجتماعي لا تعدد فيه للولاءات باستثناء حفظ الجميل والحب للوطن الأم. بمعنى أن من كانت عقيدته أو ثقافته أو منظومة "البراء والولاء" لديه على شاكلة ما تنص عليه نصوص الإقصاء والكراهية، فكل بلاد أولى بنتاجها. فلا نحمّل العالم الحر والمتحضر ذنب رفضنا باسم التمييز والعنصرية.