هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
"الجار قبل الدار".. من الأمثال الشعبية التي تكاد لا تخلو ثقافة أمة من مثل مشابه لها في المعنى. عندما تعلمنا كأطفال هذا المثل كانت الدنيا غير الدنيا، حيث كان بإمكانك إلى حد كبير اختيار جارك. كانت ثمة أمور اجتماعية وثقافية في المقام الأول قبل أن تكون اقتصادية هي المحدد الأول لذلك الاختيار. ففي مدينة كالعاصمة الأردنية عمان، كانت هناك أحياء تعرف باسم أهلها وجيرانها كحي المهاجرين والأرمن والطفايلة والمصاروة. كبرنا وحملتنا أيام الدراسة إلى بريطانيا حيث تضاف إلى معايير الاختيار محددات موضوعية بحتة لا علاقة لها بالبحث عن قريب من ثقافتك تستأنس به في "الغربة". المحددات كانت اقتصادية أمنية. بمجرد استعراض معدلات كلفة التأمين على المنازل والسيارات ترتسم أمام ناظريك خارطة المناطق الآمنة والعازلة والخطرة. فتلجأ ككائن حي لاختيار الأكثر أمنا لكنك كإنسان عاقل راشد تعمل على موازنة هذا المحدد بإمكاناتك المالية فتنشأ حالة من حالات التفاوض مع الذات تنتهي بحل وسط "لا يموت الراعي ولا تفنى الغنم".
مرت الأيام وأخذتني وأسرتي مهاجرا إلى أميركا. أمة حققت مكانتها بين الأمم بصفتها أمة مهاجرين. مهاجرون من شتى بقاع الأرض أتت بهم أحلامهم إلى "العالم الجديد". وما كان عبثا أن تكون بداية رحلة بناء الدولة والأمة هي الأسرة والمجتمع. من هنا كانت تجمعات المستوطنين الأوائل في جورجتاون ووليامزبيرغ وبلايموث في ولاية فيرجينا بمثابة حجر الزاوية للصرح الأميركي المتميز في تعدديته وانفتاحه.
ولما دفعت الانتماءات الروحية والإفرازات الاقتصادية الاجتماعية المجتمع الأميركي إلى التمايز في سلّم العمل ومواقع السكن المرتبطة به حكما في ظل بدائية وسائط النقل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تشكلت المزارع الكبرى والمحميات ومن ثم الأحياء غير المختلطة صدفة لتصبح ما قبل الحرب الأهلية وبعدها غير مختلطة بقوة العرف ومن ثم القانون. لكن نهوض قادة المجتمع من الأحرار وانتفاضهم على الظلم والتمييز العرقي والطبقي، دفع إلى تطوير القوانين شيئا فشيئا حتى وصلنا عام ١٩٦٤ – بعد أسبوع من اغتيال القس مارتن لوثر كينغ - إلى قانون يضمن عدالة السكن للإيجار والتملك. قانون يضمن ويحاسب على أي مظهر من مظاهر التمييز مسقطا أي محاولة لأي كان أن يحدد هوية جاره.
الرائع في المشرع الأميركي استجابته غير المقيدة والتي لا حدود لها لضرورات الحال. فالقانون ليس منزلا ونصوصه لا قدسية لها بمعنى التقديس الديني. وبالتالي سنّ المشرع مجموعة قوانين ونظم تحمي العلاقة المثالية المنشودة بين الجار والجار. فلا تهاون مع أي مخالفة باسم حق شخص ما في حرية التصرف بداره. المعيار واضح: تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الأخرين. ولا يترك القانون والنظم المختصة لا شاردة ولا واردة من الضوضاء إلى القمامة إلى مصف السيارات..إلخ.
وتسهم الثقافة الأميركية التي ترتبت على هذه القوانين والنظم في إعلاء قيم الجيرة الحسنة وحسن الجوار بمجموعة أخرى تكمل وتعزز روح القانون. فيأتي دور جمعيات المباني والأحياء حيث تجد نفسك كمستأجر أو كمالك أمام لائحة طويلة من الضوابط التي تتعامل حتى مع نوعية أشجار ونباتات الزينة التي يسمح بها أمام مسكنك ونوعية المنقل الذي بإمكانك استخدامه لشوي اللحوم في مناسبة خاصة أو عامة كعيد الاستقلال في الرابع من تموز.
خلاصة القول أن ما يضمن الجيرة الحسنة هي القوانين الناظمة لها، وعليه لا سبيل في عالم اليوم للعشوائية والانفلات والفوضى فيما يخص سياسات الهجرة والإقامة والملكية. إن أردنا مجتمعا صحيا مسالما تسوده علاقات الاحترام والمحبة والإنتاجية والرفاه علينا أن نحسن تشريع قوانيننا وعلينا بقدر أكبر بحماية هذه القوانين من أي تطاول والتي عادة ما يبدأ باستثناء.
أكتب هذه السطور ونحن في خضم أزمات صاخبة إعلاميا في أكثر من دولة وأشير على سبيل الحصر إلى أميركا والأردن وألمانيا حيث السجال حول مدى احتمال تلك الدول لاستمرار مسلسل الاستثناءات في قبول مهاجرين ووافدين مثار قلق من الناحية الأمنية في غياب معايير التحقق من شبهة الإرهاب انخراطا أو تعاطفا. أميركا تقيم جدارا على حدودها الجنوبية وتشدد التدقيق الأمني على تسع دول سبع منها ذات أغلبية مسلمة، الأردن يغلق حدوده الشمالية أمام مزيد من اللاجئين السوريين ويقدم في الوقت نفسه عبر الحدود معونات تطوع بها المواطنون الأردنيون، فيما ألمانيا ودول أوروبية تفكر بإقامة مراكز تجمع ومراقبة وفرز للمهاجرين خارج أراضيها لتفادي تكرار الكوارث الأمنية التي شهدتها في سنوات "الربيع العربي".
في هذه الأوقات تحديدا تتطلع مراكز بحث متخصصة ودوائر صنع القرار بعيدا عن مراكز تلك الدول نحو ضفاف المتوسط الجنوبية وضفاف الأطلسي الجنوبية الشرقية وحجر الزاوية في هاتين المنطقتين المغرب وموريتانيا.
ثمة دعوة إلى إيلاء هذين البلدين أهمية خاصة في رسم سياسات الحد من الهجرة عبر إقامة ما يشبه منطقة آمنة عازلة تصد عن أوروبا وأميركا موجات الهجرة بأشكالها غير القانونية وتضبطها في أشكالها القانونية. ولعل من أبرز هذه السياسات الوقائية الوصفة السحرية العلاجية القائلة بتعزيز الديمقراطية والتنمية ولكليهما قصة من الفرص والتحديات لها بحثها في لقاء مقبل قريب.