هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
إن أكثر ما يؤخذ على دونالد جيه ترامب رئيسا ومن قبل مرشحا ورجل أعمال، عفويته التي لا تعير وزنا لأي محاذير تحول دون إيصال الرسالة التي يريد توجيهها. هي ذات الخصلة التي فتّحت العيون على هذا النجم الصاعد العابر عالم المقاولات إلى عالم رسم السياسات والإشراف على تنفيذها في القوة العظمى الأولى في عالم اليوم. وإن كان أرشيف وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية في الولايات المتحدة حافلا بما يعكس شخصية الرجل، إلا أن الصورة تكاد تكون مختلفة في الشرق الأوسط الذي عرفه رجل أعمال مغامر حالفه الحظ أو حسن التقدير والتخطيط لإبرام أكبر الصفقات في عالمي البناء وبخاصة تشييد الفنادق والمنتجعات الفاخرة.
لم تتقاطع ولم تتداخل مصالح الرجل مع إيران وتركيا قبل التفكير في دخول عالم السياسة قبل حديثه عن حرب العراق وثروات الشرق الأوسط ومدى كلفته الدفاعية بالأرواح والدولارات. لم يتردد الاقتصادي والسياسي والإعلامي في شخصية الرئيس ترامب في التعبير عن رغبة جامحة في الانفكاك من رمال الشرق الأوسط المتحركة والتي لم ير بدا من وصفها بالمنطقة "المضطربة ذاتيا" دون الإغفال عن فرص الاستثمار العظيمة الكامنة فيها سواء أكان ذلك على الصعيد البينيّ أو العابر للأطلسي والمتوسط.
وإزاء تشابك الاقتصادي بالسياسي، واشتباك الإقليمي بالدولي بالأميركي، ما انفك ترامب من التأكيد على البرّ في شعار حملته الانتخابية: "سنعيد أميركا عظيمة من جديد" و"أميركا أولا". وبمنطق رجل الأعمال، يدعم الرئيس الأميركي رافعي هذا الشعار الأخير في بلادهم. لكن بطبيعة الحال دون فوقية أو عدائية. هذا هو المنطق الذي تعامل به مع الملفين الإيراني والتركي.
القاسم المشترك الأعظم بين هاتين القوتين الإقليميتين هو موقفهما من أميركا أولا ومن الإقليم ثانيا ومن شعوبهما ثالثا.
ليس خافيا على أحد أن ترامب المرشح والرئيس غير راض عن علاقة واشنطن بأنقرة وطهران، ولحساسية الملفات موضع الخلاف خاصة تلك التي تحمل منها بذور الصدام، سارع الرئيس الأميركي بالانسحاب من اتفاق إيران النووي، مرجئا عبر مراحل عدة، الاشتباك مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، لاعتباري متطلبات معركة القضاء على عصابة داعش الإرهابية من جهة، وكبح وترويض الأطماع التركية التوسعية في كل من سورية والعراق، من جهة أخرى.
لكن سوء قراءة إردوغان ونظيره الإيراني حسن روحاني (ومن فوقه) المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي، لما يربط بين تصريحات وتلميحات وتحركات الرئيس ترامب وأركان إدارته خاصة في وزارتي الدفاع والخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إيه)، وضع طهران وأنقرة في موقف "الدفاعية" ولا أقول الدفاع بمعنى نجاح واشنطن في سياساتها "الهجومية" المبادرة منذ تولي ترامب مهامه كرئيس وكقائد أعلى للقوات المسلحة في أميركا.
وهنا "مربط الفرس" كما يقال في التعامل مع التحذيرات الأخيرة التي وجهتها الإدارة الأميركية علانية وبشكل صريح مباشر لكل من تركيا "السلطان" وإيران "الملالي". ترامب وبعيدا عن التقاليد الدبلوماسية التي يرى أن سلفه باراك أوباما بالغ في احترامها على حساب مصالح أميركا العليا وقيمها العليا أيضا من وجهة نظره كرئيس جمهوري محافظ، يعتد أيما اعتداد بدعم الإنجيليين المحافظين له – كما تحدث قبل أيام في تجمع لمؤيديه في ولاية فلوريدا التي كان لها – وولاية بنسلفانيا وأوهايو - الدور الأكبر في حسم معركته أمام منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون.
لم يدرك "السلطان" مدى خطورة ومفصلية قضية القسيس الأميركي "الأسير" آندرو برونسون، فوضع بلاده في مدى عقوبات ترامب الاقتصادية. تماما كما لم يدرك "الملالي" في جواره الإقليمي، أن "صفقة القرن" المقبلة لا محالة غير "أم الصفقات" أو "الميغا ديل" التي أبرمها سلفه أوباما.
وما كان عبثا تزامن تلويح ترامب لإردوغان بعصى العقوبات الاقتصادية مع دلدلته جزرة في آخرها للجارة إيران عارضا اللقاء مع أي كان من القيادة الإيرانية دون شروط مسبقة. بصرف النظر عن ردود الأفعال القادمة من أنقرة وطهران "عبر تويتر"، تساءل كثيرون إن كانت مقاربة ترامب الكورية الشمالية ستؤتي أوكلها مع سول حتى تنجح مع العاصمتين التركية والإيرانية التي تتجاوز أحلامهما التوسعية حدود بلديهما رغم التحديات الاقتصادية التي توجه كل منهما من الناحية البنيوية لا أقول الخدماتية وإنما الهيكلية الوظيفية.
يعي ترامب كمفاوض فعالية سياسة العصى والجزرة مراهنا أكثر على سحر الجزرة وهو رجل صفقات بالمليارات معظمها عابرة للقارات لا تقيم وزنا لقيود ولا حدود. الرجل معروف لدى الجميع ـمؤيد أو معارض محب أو كاره- أنه معني بالنتائج لا المقدمات الطنانة الرنانة التي يدمن البعض على إضاعة العمر عليها. ترامب خاطب في رسائله الموجهة للبلدين شعبيهما. فالإنهاك الذي تسبب به "الربيع العربي" المشؤوم المذموم، أتى على كثير من المقدرات العسكرية والاقتصادية لإيران وتركيا. كما وأن حالات القمع الجمعي الممنهج التي دأبت عليها أنقرة وطهران بحق جميع أشكال المعارضة والأقليات بخاصة الأرمن والكرد، سمحت لترامب وإدارته النفاذ إلى صميم الشأن الداخلي في البلدين، ولعل تدهور قيمة العملة في طهران وتلوث مياه الشرب في إيران جرس إنذار أولى مظاهره استدعاء البرلمان الإيراني لروحاني في جلسة استجواب غير مسبوقة لأي من المسؤولين الإيرانيين.
ترامب خاطب في الموضوع الإيراني تحديدا "الشهبندر" لا "الملالي" في إيران، عارضا ما أراه فرصة ذهبية أرجو ألا تضيع في إعادة تأهيل إيران من دولة "مارقة" إلى دولة "فاعلة إيجابيا" في الشرق الأوسط "الجديد" الذي تتشكل ملامحه يوما بعد يوم في تسارع طرح ملفاته الإقليمية المزمنة. فمرحلة ما بعد "الربيع العربي" بكل سيناريوهات "تصدير الثورة" الفاشلة على نحو مروّع، حافلة بالصفقات الكبرى، صفقات اقتصادية عملاقة ضخمة تبدأ بالحاجة الملحة إلى إعادة إعمار ما دمرته سبع سنين عجاف ولا تنتهي بما تحمل حقول الطاقة "الجديدة" وخطوط إنتاجها وتصديرها من فرص تفوق الخيال.
فالحذر الحذر، من تجاهل عرض ترامب أو سوء قراءة المرحلة الراهنة من الخطاب الأميركي الخاص بالمنطقة، فترامب البراغماتي يعلم يقينا أن له شركاء براغماتيون كثر في كل من طهران وأنقرة. ترامب المفاوض لا تنطلي عليه حركات الحجاب التي تفرضه دائرة المراسم في إيران عند استقبال الضيفات الديبلوماسيات الزائرات ذلك لأنه يعلم أن التجار والعسكر في بلاد الشهبندر يحسنون -إن أرادوا- لعب دور المفاوض في ميادين السياسة والاقتصاد. وإلا بماذا تفسرون اللا صدام ولا اصطدام ولو عن طريق الخطأ أو النيران الصديقة فوق سماء سورية وأرضها بالحروب الطاحنة مع إرهابيي العالم وحثالاته من التنظيمات المتوحشة الظلامية خاصة في الجبهة الجنوبية السورية؟