هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
قطعا لا.. أسارع فأجيب، خلافا لعنصر التشويق الذي عادة ما يحكم حبكة القصة الإخبارية أو المقالة. بحكم متابعتي كصحافي لمعارك دونالد جيه ترامب التي تكاد لا تنتهي منذ إعلانه نية الترشح للانتخابات الرئاسية والذي أخذ في بداية الأمر على أنه نكتة الموسم حتى تحولت إلى كابوس لم يفق بعض الديمقراطيين والليبراليين واليساريين في أمريكا منه حتى يومنا هذا.
الفضائح ليست جديدة على من يقرر خوض المعترك السياسي أو صراع الحيتان والثيران في عالم المال والأعمال أو عوالم الشائعات واغتيال الشخصية فيمن طلب الشهرة أمام الساحرة "التي لا أمان لها" عدسات كاميرات التلفزيون والسينما.
لكل شيء ثمن، وكما يقال في المثل الشعبي الأمريكي: لا تنتظر عشاء مجانيا من أحد سوى والديك! يعلم ترامب تماما شأنه شأن أسلافه في البيت الأبيض ومنافسيه في عالم المال والأعمال والنجومية التلفزيونية والهولوودية أن ثمن النجاح والشهرة منوط بقدرته وقدرة إدارته على تحويل الفضائح والمعارك الإعلامية إلى وقود لمحرقة ماكينة الترويج والتسويق لسياساته وللكاريزما التي يتمتع بها – اتفقت معه أو اختلفت، أحببته أم كرهته.
وقبل الدخول في تفاصيل معركتيه الأخيرتين – شبه المتزامنتين – مع جون برينان مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) والموظفة السابقة لدى البيت الأبيض وحملته الانتخابية الرئاسية أوماروسا مانيغولت نيومان، لا بد من التذكير بسيل الفضائح الذي طارد تقدم ترامب في تنفيذ حملته الانتخابية ومن ثم أجندته الرئاسية. فلو كان للفضائح أثر أبعد مما يعرف بالدورة الإخبارية لأي حدث إخباري أو قصة إخبارية والتي تتراوح في أحسن تقدير ما بين 3 أيام إلى أسبوع، أقول لو كان لتلك الفضائح أي أثر ذي دلالة لما نجح ترامب في الانتخابات أمام منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون التي لم تنل منها الفضائح ومن زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون ما نال ترامب وفريقه الانتخابي والرئاسي كبول منافورت، وستيف بانون وأنتوني ساكراموتشي. فمن ناحية وقع الفضيحة على سمعة ترامب كشخص وكسياسي، لم يعر ناخبوه ومؤيدوه الأهمية التي تمناها خصومه كتصريحاته الخاصة ببعض المهاجرين (المسلمين وذوي الأصول اللاتينية) أو فئات المجتمع التي طالت فيما طالت المرأة وذوي الاحتياجات الخاصة أو الإعاقات الحركية والعقلية.
لنبدأ بقضية برينان، فالحرب الكلامية الطاحنة بينه وبين ترامب المرشح ومن ثم الرئيس لم تتوقف يوما كونه من أخلص المخلصين للرئيس السابق باراك حسين أوباما ومن الديمقراطيين المتخندقين والمتمترسين خلف كل ما هو معادي للجمهوريين والمحافظين على وجه الخصوص. الإشاعة التي طالت برينان عند تعيينه بلغت حد القول بأنه مسلم بالسر!
هكذا ينظر مؤيدو ترامب لبرينان، فيما يراه معارضو الرئيس الأمريكي، كفاءة قيادية لا يشق لها غبار في عالم الاستخبارات ومحاربة الإرهاب. برينان يملك ربع قرن من الخبرة الوظيفية داخل عالم CIA "المصان والمكتوم" عرف عنه كما قدمه أوباما للأمة الأمريكية عند تعيينه مديرا للوكالة خلفا لديفيد بتريوس الذي أطاحت به فضيحة "خيانة زوجية"، أنه كان من أبرز المحللين الاستخباريين في الوكالة ومن أكثرهم معرفة بالخلفية الثقافية للإرهاب وعلى عهده تمت تصفية أكبر عدد من قادة تنظيم القاعدة الإرهابي في العالم. أوباما حينها لم يأبه بأصوات معارضة في الكونغرس انتقدت دور برينان إبان الخدمة تحت قيادة الرئيس الجمهوري الأسبق جورج دبليو بوش (الإبن) في دعم أو التغاضي عن مراكز التعذيب "المزعومة" التي أقامتها الوكالة خارج الولايات المتحدة لانتزاع معلومات واعترافات من الإرهابيين أو المشتبه بتورطهم بالإرهاب أو معرفتهم بإرهابيين بما يخدم التحقيقات الأمنية.
برينان هذا وبكل ما يمثل ويمتلك من خبرات استخبارية، قرر الرئيس الأمريكي تجريده من تصريحه الأمني. لا بل وهناك لائحة مرتقبة تضم شخصيات أمريكية جميعها من الحزب الديمقراطي. ولتوضيح أهمية هذا الإجراء غير المسبوق في 44 رئيسا سابقا للولايات المتحدة بمن فيهم رتشارد نيكسون، نشير إلى أن التصريح الأمني في أمريكا متعدد المستويات والأغراض فهو على سبيل المثال يتناول مسائل شخصية مسلكية ذات دلالات أمنية كمخالفات السير التي تقع تحت لائحة القيادة الخطرة والمتهورة، معاقرة الخمور، إدمان القمار، تعاطي المخدرات بما فيها الماريجوانا والحشيش، العلاقات الجنسية نظير مال أو مكاسب عينية أو غير عينية (لاحظ هنا المسألة لا تتعلق بالخيانة أو الشرف وإنما بالحصول على الجنس مقابل أي شيء). في المقابل تدخل المعايير الأمنية التقليدية لتقييم المتقدم للحصول على تصريح أمني ومن أول شروطه الولاء الصادق المطلق للدستور الأميركي وخدمة الأمة الأميركية لا حزب أو شخص ما. ومن المعايير ذات التماس بما نحن في صدده هو التكتم وحفظ الأسرار التي تم الاطلاع عليها بحكم ممارسة الوظيفة أو المهنة. وتلك مسألة فيها أخذ وردّ حيث جرى العرف في أمريكا على قيام من يتقلد مهام أو وظائف عامة أو خاصة بتسجيل خبراته ومشاهداته وتقييماته عبر مقالات تنشر في الصحف أو الدوريات المتخصصة إضافة إلى تأليف الكتب التي تعتبر مصدرا رئيسيا من مصادر تمويل التقاعد فضلا عن كونها شكلا من أشكال رد الجميل للمجتمع والدولة.
بناء على ما تقدم، تتباين المواقف بين من يرى في حملة برينان على ترامب خاصة في مزاعم "تواطؤ" حملته مع روسيا ضربا من الخيانة الوطنية والمهنية، وبين من يرى فيها وطنية ومهنية مثالية وشجاعة صارمة فرضتها شخصية الرئيس الخامس والأربعين لأمريكا وسياساته كزعيم للبلاد وللعالم الحر بأسره.
أما أوماروسا، فما يجمع بينها وبين برينان على اختلاف خلفيتيهما المهنية والوظيفية والإثنية (هي من الشخصيات الأمريكية الإفريقية التي كانت تجلس على يمين الرئيس خلال نشاطاته الإعلامية الموجهة للأمريكيين السود)، هو العزف على وتر عدم أهلية ترامب لقيادة أمريكا. أوماروسا أيضا تدخل ترامب شخصيا لتجريدها من تصريحها الأمني وهو قرار عادة ما يترك لمن هم في درجة أقل في سلم الإدارة. الخطورة في معركة أوماروسا يكمن في خلفيتها المشتركة مع ترامب فهي الآتية أيضا من عالم "الرياليتي شو" عالم العرض التلفزيوني المباشر والمتواصل للواقع المعاش بلا حدود أو تابوات من أي نوع. عالم كل شيء فيه مباح لإثارة الانتباه ورفع أرقام ومنسوب الاشتراكات والرعايات الإعلانية.
أوماروسا - وفي إطار الترويج لكتابها "أن هينجد" وتعني بالعربية "المعتوه"! – أعلنت أن بحوزتها 200 تسجيل صوتي سريّ خلال عملها إلى جانب المرشح والرئيس ترامب ومن داخل أروقة البيت الأبيض بما في ذلك ما تعرف ب"السيتيويشن رووم" أو "مطبخ العمليات والسياسات" فيما يفترض أن يكون من أكثر الأيقونات السيادية الأمريكية قداسة وتحصينا.
بعيدا عن الفضائحية التي تحتويها تلك التسجيلات، قامت أوماروسا بنشر تسجيل صوتي يظهر تلقيها رشوة من لارا إريك ترامب قدرها 15 ألف دولار شهريا نظير التزامها الصمت وعدم تسريب أي شيء عرفته خلال خدمتها السابقة قبل طردها من البيت الأبيض في ديسمبر الماضي.
وبين زعم برينان بتورط ترامب الشخصي والمباشر في "التواطؤ" مع روسيا وزعم أوماروسا بمعرفة ترامب الشخصي والمباشر أيضا بفضائح ويكيليكس قبل انكشاف أمرها وإقرار واشنطن بوقوعها كأكبر اختراق أمني يهدد سلامة الأمن القومي الأمريكي داخليا وخارجيا، بين هذا وذاك يبقى في نظري المحك الحقيقي لنجاة ترامب أو سقوطه هي الانتخابات النصفية المرتقبة في الكونغرس في نوفمبر المقبل (انتخاب مجلس النواب بأكمله – أربعمائة وخمسة وثلاثين مقعدا- وانتخاب خمسة وثلاثين من أصل مائة مقعد هي مقاعد مجلس الشيوخ الأمريكي). فإن نجح الجمهوريون ولم يتمكن الديمقراطيين بعد كل هذا من استعادة ثقة الناخب الأمريكي، سيكمل ترامب رئاسته وربما يعاد انتخابه لولاية ثانية، وهو الأرجح في ظل عدم تمكن الحزب الديمقراطي حتى الآن من إيجاد شخصية كارزماتية لقيادة الحزب وإعادته إلى سدة الحكم.