هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية (CNN)-- بفارق سبع دقائق، جاء ترتيب ثاني خطاب "حال الاتحاد" الذي يلقيه الرئيس دونالد ترامب ثالثا من حيث المدة، بعد خطابين هما الأطول في التاريخ الأميركي وكانا من نصيب الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
اثنتان وثمانون دقيقة تحدث فيها ترامب عن إنجازات إدارته وتطلعاتها إلى المزيد بروح الفريق التي تنشد "نصرا أميركيا لا جمهوريا ولا ديموقراطيا". ترامب أكد أن "الاتحاد في غاية القوة والمنعة" بمعنى أن "الحال عال العال" كما تقول اللغة الدارجة في معظم اللهجات في "بلاد العرب أوطاني". السؤال المطروح عل الأقل في ذهن من لا تعرف بلادهم أنظمة حكم دستورية ملكية أكانت أم جمهورية، متى تكون لنا قيادة تستأذن رئيسة مجلس النواب بالسماح لها بمخاطبة الأمة من تحت القبة عن حال "البلاد والعباد"؟ أقول هذا وأنا أتابع بدهشة النفس العجيب الغريب الذي ينبري له بعض المتطرفين في إنكار اللون الرمادي بل والألوان كلها عندما تأتي الأمور إلى النظرة إلى القائد أو الحزب أو الطائفة، "فكل حزب بما لديهم فرحون" وإلى حد تقسيم العالم إلى أبيض وأسود والقادة والخصوم إلى أبطال أو أعداء، غالبا من خلال مشاعر انفعالية ومواقف مسبقة قطعية تميل إلى التعميم دون تحكيم العقل أو الاحتكام إلى المنطق.
من رحمة وحكمة النظم الديموقراطية في العالم، التشاركية في الحكم والشفافية في المحاكمة، ومساءلة الجميع وامتثالهم إلى قانون يصنعه مشرعوهم ويحميه قضاتهم. من هنا تباينت ردود الفعل على جانبي الرئيس وقد اعتلاه على المنصة رئيسا جناحي الكونغرس رئيسة مجلس النواب الديموقراطية نانسي بيلوسي ورئيس مجلس الشيوخ الجمهوري مايك بينس نائب الرئيس الأميركي.
محطات منيرة غير حزبية أقف عندها كأميركي عربي بمحبة وتقدير كبيرين، وأبدأ بيبنس، وهذه القيمة الديموقراطية الحضارية الإنسانية المتميزة بدور الرجل الثاني حيث ينبغي له دائما أن يكون في الظل، يشور بصمت ويخدم بصمت أيضا لا يأت بأي فعل قد يزاحم القائد على أي دور أو اهتمام. في المقابل أنظر إلى بيلوسي بقيمة عظيمة أيضا تتمثل بعودتها إلى موقع متقدم كانت فيه قبل سنوات، عبر التصويت واسترداد ثقة الناخبين، عودتها بمطرقة الرئاسة هذه المرة أكثر قوة والدليل ما شهدناه خلال أزمة الإغلاق الحكومي التي مازالت تخيم على الجميع مع اقتراب انقضاء المهلة الرئاسية منتصف الشهر الجاري.
صور جميلة كثيرة سجلتها الأعراف الأميركية المميزة في هذه الخطابات تمثلت بالضيوف المكرمين في شرفة النظارة والتي شملت هذا العام نماذج حقيقية ستبقى خالدة في وجدان الأميركيين: طفلة ناجية من السرطان وطفل تعافى من التنمر وشرطي قام على رجليه مجددا بعد تلقيه رصاصات الحقد والكراهية دفاعا عن المصلين في كنيس في بينسيلفانيا. لعل السابقة الأجمل كانت غناء الكونغرس لحن عيد الميلاد، لأميركي يهودي ثمانينيّ جلس إلى جانب من حرره من براثن النازية.
بطبيعة الحال، قابل هذه النماذج نماذج مضادة من الجانب الأميركي في إطار رد الحزب الديموقراطي على خطاب الاتحاد الذي لخصت الموقف إزاءه صورة أيقونية تظهر بيلوسي وبينس في لغة جسد متباينة خلال قيام الكونغرس وتصفيقهم تحية لوصول أكبر عدد من النساء إلى مجلسي الشيوخ والنواب في التاريخ والذي كانت فيه الغلبة للمرشحات الديموقراطيات اللاتي اخترن البياض لونا يميزهن في مجلس النواب عن السواد الأعظم في الكونغرس، بعد أن اتشحن في السواد الخطاب السابق في إطار حملة "وأنا أيضا" التي تكرست للدفاع عن التحرش بالنساء. البياض الناصح كان هذه المرة عهدا لتضامن المرأة لتحقيق مزيد من الحقوق في رمزية تعود إلى مطلع القرن الماضي تأكيدا لحق المرأة في الانتخاب.
الله نسأل، أن يصلح الحال ويصبح في مشرقنا المكلوم "عال العال" وقد تكون البداية في اعتماد تقليد أميركي سياسي عريق آخر يعود إلى عام ١٩٥٣ ويجري سنويا كل أول خميس من شهر فبراير-شباط ويعرف بصلاة الفطور الوطنية. صلاة يقودها رجال الدين من جميع الأديان يحرص فيها الرؤساء الأميركيون على تعظيم القيم المشتركة التي تحض عليها الأديان كافة خدمة للوطن وللإنسان أينما كان وكائنا من كان.