هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لنيوزيلندا دلالة في وعي الأردنيين عادة ما ارتبطت بكونها من أجمل مراعي الحملان في العالم. كان ذلك الحال في ثمانينيات القرن الماضي، حتى جاءت التسعينيات والألفية الثالثة لتصبح تلك البلاد البعيدة الوادعة مقصد الأردنيين وسواهم من الشرق أوسطيين الباحثين عن فرص أفضل للحياة لهم ولأبنائهم.
في نيوزيلندا كغيرها من بلاد المهجر "لمت الشامي على المغربي" وصار فيها كما عرفت عن قرب في بريطانيا وأمريكا، من "كل قطر أغنية" صدق في كثير من حالات التجمع فيها أن كلا "يغني على ليلاه". عرفت مرة أخرى أقولها عمدا، عرفت بل وخبرت عن قرب، مقاصد الكثير من المهاجرين واللاجئين والمقيمين والزائرين. ليس كلهم بطبيعة الحال سواء، لكنهم في كثير من الحالات -وهنا بيت القصيد- كائنا واحدا في عيون محيطهم وبخاصة العامة الدهماء. بمعنى آخر، ساهمت سلوكيات طرفي معادلة الوافد والمقيم (بصرف النظر عن الوضع القانوني لكليهما)، في تشكيل صور نمطية غالبا ما تكون مشوهة ما لم تكن مغلوطة كليا.
الصدفة أو الأقدار حاضرة بقوة في تلك المعادلة حيث كانت نيوزيلندا وأستراليا المشهورة هي الأخرى بمراعي الحملان، جاءت بمنفذ مجزرة المسجدين. التحقيقات الأولية مع الإرهابي المشتبه به (وقد اعترف بجريمته في بث مباشر دام 17 دقيقة عبر فيسبوك)، تفيد بأنه أسترالي من أصل صربي وأنه كان يستمع لأغنية صربية تتحدث عن "التركي الفج" في إطار إدانة مطولة عبر تويتر قبل تنفيذ المجزرة لمن اعتبرهم "الغزاة المسلمين" الذين يعيدون عبر الهجرة والتوالد تهديدات الخلافة العثمانية بغزو أوروبا من جديد.
مرة أخرى حملتني ذكريات المهنة إلى خدمتي كمراسل تلفزيوني أثناء تغطية مهام قوات حفظ السلام الأردنية في كرواتيا إبان حرب البلقان قبل زهاء ربع قرن. يومها شهدت لأول مرة في حياتي ما تعنيه الحرب. ظننت يومها أن طرفا واحدا من المكون الإثني هو الشرير والآخرين هم الأخيار ليتضح فيما بعد أنهم جميعا لم يقصروا ببعضهم بعضا تاريخيا وأن جذور الصراع تعود إلى العثمانيين ومن بعد للنازيين.
مشهد آخر ازدحم بالذاكرة، تمثل بشهادة زميلة صحافية بلغارية جمعتني وإياها دراسات حل النزاعات ومحاربة الإرهاب. حدثتني وزملاء من نحو 20 بلدا في بريطانيا عن فظائع "الأتراك العثمانيين" إلى حد زعمها بأن سنوات الستار الحديدي وعقود الشيوعية والحرب الباردة لم تتمكن من محو العقل الجمعي في أوروبا كلها وليس بلغاريا وأوروبا الشرقية وحدها من الخوف والكراهية إزاء "العثماني".
حتى الحرب في سوريا والدعم الروسي المستميت دفاعا عن "النظام" في مقابل "الفوضى"، قال خبراء إنه تكفير عن "خطايا" الروس في "تخليهم" عن أشقاء "المعمودية الأرثوذوكسية" متمثلة بالصرب. الروس لا يثقون بالترك وتلك مسألة أخرى يراهن عليها الكرد أيضا الذين عانوا من بطش الترك كما الشركس والأرمن.
المسألة إذن في غاية التعقيد وإن كانت تبدو في خبر عاجل مجرد عمل إرهابي مدان دون الخوض بتفاصيله وبصرف النظر عن المنطق المريض المسوغ له. ما جرى في نيوزيلندا عمل إرهابي مع سابق الإصرار والترصد، عمل محكم من حيث الدوافع والتنفيذ، عمل يتطلب وحدة من "القوات الخاصة" في حرب نظامية.
هنا يكمن جوهر القضية، كيف وجدت الذئاب المنفردة مرتعا في مراعي الحملان؟ كلنا مذنبون. والبداية في تشكيل الوعي السوي روحيا ونفسيا وأخلاقيا وتلك آفاق لا علاقة لها لا بدين ولا بعرق ولا بدخل قومي ولا بنسب فقر وبطالة ولا بجفاف ولا بتصحر. البداية في تشخيص العلة لا تسكين أوجاع أعراضها. العلة ليست في "الملة"، العلة في فهم العلاقة بين الإنسان والخالق، والعلاقة بين الإنسان والإنسان، والإنسان والأوطان. والفرق بيّن، فشتان بين الذئاب والحملان، فما بالكم بالذئاب في هيئة الحملان. احذروهم ولنبدأ بأنفسنا.