هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لم أكن يوما مغرما بالعولمة، ولم أنخدع بأعراضها قط. ليست المسألة بالنسبة لي قناعة وإنما اعتقاد راسخ. وحده خالق الكون الذي يقدر إن أراد أن يجعل العالم وحدة واحدة. في نظري، أن سنة الحياة لن تخرج أبدا عن إرادة الوجود، وهي التنوع الحيوي الذي يستلزم تنوعا في كل شيء من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية.
من خطايا - ولا أقول أخطاء - دعاة العالمية والعولمة، مزاحمتهم فيما هو ليس من حقهم أو في متناول قدرتهم. فحتى رسالة السماء - ونحن نعيش في هذه الأيام أعياد الفصحين اليهودي فالمسيحي ورمضان– حفظت للناس خصوصية المكان والزمان.
استند دعاة العالمية والعولمة إلى سلسلة من المغالطات والافتراضات الخاطئة عندما ظنوا أن ثورة المواصلات والاتصالات والتواصل المعرفي كفيلة بالصهر القسري للقارات المتباعدة والأقاليم المتصارعة والدول المتناحرة عبر الحدود وداخلها.
وكما أسقط فيروس التخلف والتطرف والإرهاب الحدود المنيعة جراء ضعف مناعتها الذاتية، أسقطت الأوبئة تباعا الأقنعة التي اختبأ وراءها دعاة العولمة حرصا على أسواق أكبر وثراء أسرع، مكممين معارضيهم بلائحة من التهم التي توسمهم بهاشتاغات العنصرية والخوف من الغريب ومعاداته "الزينوفوبيا"!
بصرف النظر عن نظرية المؤامرة حول منشأ كوفيد 19 وانتشاره، فإن الأثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية له بلغت من التعقيد حد المعضلة التي حملت بذار وفاة العولمة والعالمية في آن واحد. ما أعنيه بذلك هو أنه وعلى النقيض من مراد العولمة في جعل "قريتنا الصغيرة" عالما واحدا، فإن فيروسا متناهي الصغر فتك في ذلك الوهم وأعاد عالمنا الكبير إلى حقيقته وهو مجموعة من العوالم القائمة بذاتها، شئنا أم أبينا. نعم سيبقى الشرق شرقا والغرب غربا روحيا وفكريا واجتماعيا. وسيبقى في كل قرية شمالا وجنوبا فيما يخص امتلاك الثروة وأدوات الإنتاج ومنها المعرفة.
كورونا المستجد ليس جديدا علينا كبشر من حيث تعامل الإنسانية مع كثير من الكوارث ومنها الأمراض الوبائية القاتلة، لكن الغموض الذي اكتنف بداياته، والهلع الذي ساهم الإعلام التقليدي والجديد في نشره، أدى إلى تضخيم الصدمة من تداعياته. انهارت ادعاءات المنظمات الدولية والتحالفات الإقليمية مقابل زوال الفروقات بين ما يحرك الإنسان في أي مكان في العالم عند الخوف على حياته. أي تهافت وسقوط هذا الذي شهدناه أمام ورق التواليت والكمامات؟
كما أدت جوائح الإرهاب وتهريب البشر والمخدرات إلى تعالي أصوات الداعين إلى بناء الجدران الحدودية، فإن جائحة كوفيد 19 ستعلي من كعب اليمين وترفع أسواره ليس بين الدول لا بل وداخل المجتمعات أيضا. فتجربة الحجر والحظر التي ما زلنا نعيشها في معركة البقاء مع كورونا المستجد ستؤدي إلى مزيد من "البريكست" الأوروبي والأطلسي والشرق أوسطي.
رؤية عشرين-عشرين اتضحت: الفدرالية الواقعية كسبت جولة أمام الدولة التقليدية المركزية، واللامركزية كسبت جولات أكبر، واليمين قادم وبقوة..