هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
في حياتي المهنية تشرفت بالعمل في فريق بقيادة صحفي أمريكي من أصول شرق أوسطية. كان لا يطيق ثلاثة أمور يراها دخيلة على الصحافة، ولا أقول الخبرية وحدها وإنما أيضا ما يندرج تحت باب التعليق والتحليل. كانت لاءاته الثلاثة هي: لا للمقدمات، لا للروابط ولا للنعوت. المشاهد – وقد كان عملنا إخباريا تلفزيونيا – قادر على الدخول بالموضوع مباشرة ويملك من أدوات الربط ما يكفي بين فقرات الخبر ولا حاجة لديه للوصف ما دامت نتائج الحدث وما يرافقه من صوت طبيعي أو شهادات حية للناس في الميدان كافية بأن تصف حدثا ما بأنه عمل إرهابي أم لا.
ورغم كون تلك المؤسسة الصحفية – وهي أمريكية يمولها الكونغرس - كانت مرتبطة ارتباطا مباشرا باعتداءات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ ، إلا أنه كان يرفض إدراج فقرة "أحداث من التاريخ" كما دأبت جميع الفضائيات الشرق أوسطية، كون الاختيار بحد ذاته يعتبر موقفا سياسيا له أكثر من قراءة: فما يراه البعض ثورة مشروعة يراه البعض الآخر تمردا غير شرعي، وما يراه البعض تحريرا يراه البعض الآخر غزوا أو احتلالا، وما يراه البعض الزعيم الأوحد والمنقذ الملهم يراه البعض الآخر طاغية مدعيا مغتصبا للسلطة.
أسوق ما تقدم ليس من باب التوطئة بل في صميم الذكرى التي أراد لها الرئيس الأمريكي جو بايدن أن تكون الأولى التي يتم إحياؤها بعد الخروج من أفغانستان إيذانا للخروج من الحروب اللامتناهية.
لكن الحادي عشر من سبتمبر لم يكن بداية الحروب الخارجية ولا كان بداية عهد أمريكا بمحاربة الإرهاب أو بالعدو الخارجي الذي كان في يوم ما الشيوعية. صحيح أن أمريكا هزمت في فيتنام لكنها انتصرت في حربها على الشيوعية بتفكيك الاتحاد السوفييتي بعد ذلك بأقل من عقدين. فهل تؤذن هزيمة أمريكا في أفغانستان ولا أظن أحدا يصفها بأقل من ذلك، لنصر مؤزر وإن كان مؤجلا على الإرهاب؟
قبل الذكرى الأولى للاعتداءات لم يكن في العالم سوى نظام ملالي واحد في نسخته الشيعية وكان وما زال جاثما على صدر إيران والشرق الأوسط جراء سلسلة أخطاء كارثية استراتيجية لم تبدأ بالرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا متران ولا بالرئيس الأمريكي (الديموقراطي) جيمي كارتر. الآن قامت إدارة باراك حسين أوباما الثالثة كما يسميها كثيرون بتمكين ثاني نظام ملالي من الحكم في نسخته "السنية" بعدها فشلت الإدارة الثانية فيما رآه البعض محاولة لتمكين تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي من حكم عدد من الدول العربية.
الصورة قاتمة ولا تبشر بالخير. لم أتخيل – كأمريكي عربي- أن بايدن الذي دغدغ مشاعر الناخبين العرب والمسلمين إبان منافسته الرئيس السابق دونالد ترامب بحديث نبوي شريف: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ومن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" لم أتخيل أن نحيي الذكرى العشرين لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وقد عادت طالبان إلى الحكم في وزارة حملت اسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وقبل مباشرتها العمل قامت بجلد صحفيين قاما بتصوير مظاهرة نسائية.
لعل من أكثر الانتقادات دلالة ودقة هي تلك التي جاءت على لسان الحليف الأقوى والأقرب لأمريكا. رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، توني بلير وصف ما جرى بالكارثي وأن الحرب ما زالت مع الإرهاب مستمرة، لكن أمريكا قررت الانسحاب من الحرب. الانسحاب لا يعني أبدا كسب الحرب أو إيقافها. ومما يعزز صواب ما ذهب إليه بلير الذي لولا تحالفه مع جورج بوش الإبن لما كانت حربا العراق وأفغانستان، شواهد كثيرة من العراق وسوريا ولبنان إلى اليمن مرورا بليبيا وغزة.
أنظر في اليمن مثلا كيف صار الحال بعد أقل من عام على السنة الأولى لبايدن في الحكم. حالة من الجمود في القتال الذي بات محصورا شمال البلاد في تنازع للقوى بين الحوثيين (إيران) والإصلاح (الإخوان). ولكل أدوات الحرب الخشنة والناعمة من بينها فضائيات وتغيير ممنهج بمناهج التعليم التي ستسمم أجيالا وتقسم أوطانا.
الحرب في الأساس إرادة.. وفي معركة الإرهاب ومحاربته هي حرب بين إرادة وثقافة الموت والحياة، الكراهية والمحبة. أحسن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف وصفها عندما قال عن مستقبل أفغانستان "لن نستطيع أن نعلمهم الحياة" في إشارة إلى رفض المزاوجة بين محاربة الإرهاب وبناء الأمم.
هذه الحرب بالأساس حرب أفكار ومشاعر، معتقدات ومفاهيم وسلوكيات. حرب ميدانها الحقيقي الثقافة والصحافة والرياضة. ها هم قد حرموا الرياضة على النساء وما زالوا يرون في الموسيقى وكثير من الفنون فتنا والفكر زندقة والصحافة من الضرورات التي تبيح المحظورات حتى يتمكّنوا. لا فرق بينهم طالبان أفغانستان، طالبان باكستان، داعش خرسان، القاعدة خرسان، إخوان مصر إخوان اليمن، حوثيي اليمن وحزب الله اللبناني أو العراقي. كلهم واحد، جميل أن نغفر – تلك من وصايا رب العالمين - لكن من غير المقبول أن ننسى!