رأي.. الغزو الروسي لأوكرانيا بين تاريخ انتقائي وواقع نظام دولي جديد

العالم
نشر
11 دقيقة قراءة
رأي ياسر الغسلان

هذا المقال بقلم ياسر الغسلان، رئيس المركز العربي للدراسات الأمريكية، كاتب ومعلق سياسي مقيم في العاصمة الأمريكية واشنطن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظره ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.

في ٢٤ فبراير/ شباط الماضي، بدأت القوات الروسية عملياتها العسكرية وفق الوصف الروسي في الداخل الأوكراني وذلك بعد أيام معدودة من إعلان الرئيس الروسي إعتراف بلاده بإعلان المقاطعتين الأوكرانيتين (دونيتسك) و (لوغانسك) استقلالهما من جانب واحد، وهو الإعتراف والعمل العسكري الذي تحول منذ ذلك الحين لغزو شامل امتد لباقي الأراضي الأوكرانية ولاقى استنكاراً دولياً خصوصاً من دول حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا.

هذا العمل العسكري الذي يصفه الغرب بالغزو الحربي لا يمكن قراءته وفهم خلفياته الآنية إلا بمحاولة فهم خلفياته التاريخية في البداية، وكيف تم صياغتها بالشكل الذي جعل التبرير الداخلي يختلف عن الأسباب الحقيقية التي دفعت الرئيس بوتين لإتخاذ هذا القرار الذي لا يمكن وصفه بالمفاجأة ولكنه الصادم لكثير من المتابعين للعلاقات الدولية.

لابد لنا أن نقول في البداية أن بوتين يحاول من خلال غزوه لأوكرانيا أن يعيد إحياء الإمبراطورية الروسية بشكل جديد وفق رؤيته، الأمر الذي يظهر جلياً في خطابه إبان بداية الغزو الروسي لأوكرانيا المصبوغ بروح قومية ودروس تاريخية محوره لخدمة هذا التوجه، فبوتين في خطابه السياسي لا يركز كثيراً على سردية لا تعترف بأوكرانيا كدولة بقدر تركيزه على عدم الإعتراف بالهوية الأوكرانية المستقلة عن روسيا، والعمل على محاولة دفع الأوكرانيين نحو قبول الانضمام للكيان الروسي منطلقاً من فكرة استعمارية في صلبها، مع قناعته المتأصلة بأن أوكرانيا كدولة ستسقط بشكل سريع في أيدي الدب الروسي حيث سيتم اعتقال القادة السياسيين والطبقة المثقفة ذات التوجهات الغربية الليبرالية، أما الشعب فإنه يرى أنه سيخضع في آخر المطاف للغازي المستعمر.

ورغم اعتماد خطاب بوتين على التاريخ كمدخل تأسيسي لأعماله العسكرية إلا أنه يتجاهل الوقائع ويقوم بانتقاء ما يناسبه إعتماداً على منهج تبريري يستند العقلية القومية الروسية للدفع نحو خلق سردية تتناسب مع أهدافه، التاريخ ذاته الذي يسرد كيف أن البلاشفة في حربهم لتأسيس الإتحاد السوفيتي واجهوا فعلياً جيشاً أوكرانياً يدافع عن حدوده، الأمر الذي يعني أن الهوية والكيان الأوكراني كان موجوداً بالفعل بشكل مستقل إبان الإمبراطورية الروسية ذاتها والتي يحلم بوتين بإعادة أمجادها وإن بنظام سياسي مختلف، إضافة إلى ذلك فبوتين يتناسى ايضاً وقائع التاريخ فيما يتعلق بالمواجهات التي حدثت في غرب أوكرانيا من قبل الثوار الأوكران ضد الرئيس السوفيتي خروشوف بعد الحرب العالمية الثانية والذين رفضوا الانصياع للكيان السوفيتي والاندماج معه وفق رأي الدكتور (أود أرني ويستاد تاي) أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة ييل.

وبالعودة للتاريخ القريب فإن الأوكرانيين أيضاِ كانت لهم صولات ضد النفوذ الروسي في بلادهم، نرى ذلك في حراكهم الشعبي عامي ٢٠٠٤ و٢٠١٤ ضد السياسات القمعية دعماً للديمقراطية ورفضاِ لخضوع وتبعية قادتهم لروسيا، وهي المواجهات التي أسفرت في نهايتها عن وصول طبقة سياسية مستقلة لا تأخذ أوامرها من موسكو ولا تخدم أجندتها، وإن كان الروس بدورهم يتهمون قادة أوكرانيا اليوم بأنهم تابعون للغرب وجزء من أجندتها المعادية لروسيا.

البعض يرى تشابهاً بين الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم وما حدث عام ٢٠١٤ عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم، والذي تحقق عندما قامت روسيا بتحريك قواتها الخاصة لاستنهاض المتمردين في ثمان مقاطعات، نجحت على إثر ذلك بشكل كبير في إثنين منها مما أدى بالمواجهات حول مدينة دونيسك الأوكرانية لسقوط شبه الجزيرة في نهاية المطاف بيد روسيا، إلا أن هناك عدة فروق يجب لفت النظر لها خصوصاً في الكيفية التي من خلالها قام الرئيس بوتين في إقناع جمهوره بذلك التحرك.

فقبل احتلال شبه جزيرة القرم قامت روسيا بتنظيم حملة دعائية واسعة التأثير عام ٢٠١٣ سبقت العمليات العسكرية، حيث تم تصميمها للهجوم على أوكرانيا بسرديات تناسب اليمين واليسار الروسي، فوصفت أوكرانيا بأنها داعمة للمثلية لإقناع الأجنحة اليمينية، وبأنها دولة نازية لإقناع اليسار، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف لخلق حالة من الاصطفاف الوطني مهّد لقبول وتوقع أن عزواً ما سيحدث، وبالفعل عندما حدث غزو القرم تنامى في روسيا الشعور بالفخر القومي والسعادة والوطنية.

هذه الحالة لم تتكرر في مرحلة ما قبل الحرب الحالية، فبوتين في هذه المرحلة كان على عكس ما كان عليه من المرة السابقة، حيث ظهر في أكثر من مناسبة وكأنه في موقع الدفاع والتبرير، كما أن ظروف الدعم الشعبي له اختلفت بين الحقبتين وعلاقته معهم تغيرت، نلحظ ذلك في أنه ومنذ بداية العمليات العسكرية في ٢٤ فبراير خرجت في الشوارع الروسية مظاهرات داعمة للسلام ومناهضة للغزو رغم علم من خرج أنهم سيعتقلون، وهو خروج نابع من قناعة في أوساط روسية عديدة من أن هناك أمر خاطئ يحدث من قبل حكومتهم لا يجب السكوت عنه.

ما صعّب على بوتين خلق ذات الحالة التي لمسها في القرم كما يرى (تيموثي د. سنايدر) المؤرخ وأستاذ تاريخ أوروبا الوسطى والشرقية في جامعة ييل، أن قرار الغزو كان معلوماً فقط من قبل عدد محدود من الأشخاص إلى جانب بوتين الذي اتخذ القرار، وهو الأمر الذي صعّب على الطبقة المحركة للرأي العام من مثقفين وإعلام وقادة رأي في إيجاد الوقت الكافي للعمل من أجل صياغة السرديات التبريرية المناسبة لتمهيد الغزو ولجعله مقبولاً لدى الجمهور الروسي العريض وتجهيزهم لإحتمالية مواجهة العقوبات المتوقعة والمترتبة على الغزو.

ولكن كيف يمكن قراءة الواقع اليوم وفق الظروف التي خلقتها حالة الحرب التي تشهدها أوكرانيا؟ يقول (أود أرني ويستاد تاي) إن بوتين كان يعتقد بأن غزوه لأوكرانيا سينتج عنه إنقساماِ في أوروبا وهو هدف رئيسي له، إلا أن من المفاجآت مثلا ما شهدناه في موقف فنلندا والسويد اللتين إصطفتا لجانب أوكرانيا بدعمها معنويا وعسكرياً، وهو موقف ربما لم يكن ليتصوره المتابعون والمحللون قبل إندلاع الحرب، كما نجد إمتدادات ذلك بوضوح في مواقف باقي الدول الأوروبية التي تقف اليوم متحدة ضد الغزو، وهو الأمر الذي سيكون له إنعكاس خصوصاً على الدول التي ما زالت تقف مترددة خوفاً من تفجر الوضع وتحوله لحالة قد تدفع لحرب شاملة في القارة الأوروبية وربما العالم، على الرغم من أنه وفق رأي (أود أرني ويستاد تاي) هناك من يرى بأن الطريقة الوحيدة لمنع حدوث حرب شاملة هو من خلال دعم أوكرانيا بهدف دفع روسيا للتراجع وإقناع بوتين بأن مغامرته هذه لن يكتب لها النجاح بالشكل الذي يتخيله.

إلا أن (جون ميرشايمر) أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو يرى أن المواجهة بين روسيا وأمريكا ستنتهي بانتصار روسيا، والسبب يعود لكون أوكرانيا بإنضمامها لحلف الناتو بالنسبة لروسيا أهم وأخطر من أوكرانيا ضمن الناتو بالنسبة لأمريكا، ولا دليل أوضح على ذلك من أن أمريكا أوضحت بجلاء أنها غير مستعدة للموت من أجل أوكرانيا على عكس الروس الذين يدفعون بجنودهم كل يوم من أجل تحقيق هدفهم في تحقيق آمانهم الوجودي.

إلا أن هذه التجاذبات ستؤدي إلى توترات ليس فقط في أوروبا بل على المستوى الدولي بشكل لم نشهده منذ عقود، فالحرب وامتداداتها لم تنته بعد ولن تنتهي مع نهاية القتال، يظهر جلياً في مواقف العديد من الدول المهمة على المسرح الدولي الأمر الذي سيخلق بشكل حتمي تركيبة جديدة من علاقات الاصطفاف وما سينتج عنه من تبدل في العلاقات بين الدول على المدى المتوسط والبعيد.

وربما من أهم تبعات المواجهة الحالية في أوكرانيا هي أن التوجه الروسي في أوكرانيا لن يؤتي ثماره بالشكل المأمول لروسيا، لأنه سيجعلها أكثر إنعزالاً على المستوى الدولي ويجعلها أكثر إعتماداً على الصين، وهو أمر في نهاية المطاف سيخدم أمريكا بشكل رئيسي، فروسيا التي ستنحسر بتبعيتها للصين سيصبح خطرها أقل، الأمر الذي سيمنح أمريكا القدرة على التركيز على القوى الرئيسة المنافسة لها وهي الصين.

إلا أنه من الواضح أن الصين في هذه المرحلة تشعر بشيء من الحرج من ما يقوم به شريكها الروسي، وهو شعور يرى المراقبون أن الغرب عليهم استغلاله واستثماره والمراهنة عليه في تغيير المعادلة على الأرض، فالصين في البداية كان موقفها حيال الأزمة أن تقف على الحياد وترك المجتمع الدولي يضغط على روسيا بحيث يدفعها ذلك للإرتماء في الحضن الصيني وبالتالي استغلال ذلك لصالحها والسيطرة أكثر على روسيا من ما هو الحال حالياً، رغم من أن الموقف الروسي في أوكرانيا يخالف بشكل صريح المبادىء التي قامت عليها الصين والمتمثلة بدعم استقلال الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

لابد في الختام أن نقول أن الحرب الأوكرانية وإن تبدو حربا تكتيكية بين قوتين تحاول الهيمنة على أوروبا إلا أنها في صلبها أقرب لحرب إعادة تشكيل لواقع النظام الدولي في مرحلة يشهد فيها العالم بروز قوى إقليمية متعددة وتنامي الحركات القومية وتبدل ديناميكية التحالفات والشراكات السياسية، فمن جانب هناك روسيا التي تحاول أن تثبت أقدامها كمحرك رئيسي في عالم ملتهب والصين التي تراقب وتترقب النتائج وأمريكا التي تريد أن تحصر المنافسة وفق النمط الذي اعتادت عليه بمواجهة تقليدية ثنائية الأقطاب بدلا من الغرق في مستنقع عالم متعدد الأقطاب لا تضمن أن تحافظ فيه على مكانتها باعتبارها الدولة الأولى في العالم إقتصادياً وعسكرياً.