دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- بقدر ما تبدو الأزمة السياسية الحالية في مصر حديثة وناتجة عن القرارات الأخيرة للرئيس محمد مرسي، بما في ذلك الإعلان الدستوري والدعوة إلى الاستفتاء على مسودة دستور جديد، إلا أنها في الواقع تستند إلى خلفية تاريخية تعكس صراعا أيديولوجيا طويلا في الفكر السياسي العربي والإسلامي، منذ مطلع القرن العشرين.
ويقول مرسي إنه يحاول "تسريع الإصلاح" في حين يتهمه خصومه بالسعي للسيطرة على الدولة، لكن الرئيس المصري ليس أول - وربما لن يكون آخر - زعيم عربي يحاول البحث عن طرق لإقامة "مؤسسات لدولة فاعلة" عن طريق حلول دستورية يرى صحتها في منطقة غلبت عليها أنظمة شمولية أو حكومات ضعيفة منذ فترة سقوط الدولة العثمانية.
فقد كانت الدعوة إلى إقامة أسس دستورية للعلاقة بين الشعب والحاكم على رأس جدول أعمال معظم القوى والجمعيات السياسية في المنطقة مطلع القرن العشرين، عندما طرح المفكرون المسلمون التساؤلات الأساسية حول أسباب تراجع دور العالم الإسلامي مقابل التقدم المطرد في الغرب سياسيا وعسكريا.
وحاولت النخبة في الدول الإسلامية في مطلع القرن العشرين الدفع باتجاه إصلاحات دستورية، ولكنها اصطدمت بتعنت بنية السلطة، لينفجر الصراع على شكل ثورات بدأت في إيران، التي يغلب عليها الطابع الشيعي، عبر ما عرف بثورة "المشروطة" أي الدستور، عام 1907، لتنتقل الشرارة بعد ذلك إلى الدولة العثمانية السنيّة عبر ثورة عام 1908، التي أطلقت ما عرف بـ"الثورة الدستورية" بقيادة حركة "تركيا الفتاة."
وعززت تلك التحركات الوعي بضرورة وجود دستور حاكم للعلاقات بين السلطات كشرط من شروط تحديث بنية الدولة في العالم الإسلامي، غير أن تأثيرها على الدولة العثمانية كان أعمق بكثير، إذ دخلت السلطنة حقبة جديدة من الضعف بلغت ذروتها مع الهزائم السياسية والعسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، بعد ذلك بعقد من الزمن.
فللمرة الأولى باتت "دار الخلافة" في تركيا تحت سيطرة الجيوش الحليفة، واضطرت لقبول شروط مذلة للصلح، غير أن بروز مصطفى كمال "أتاتورك" وقيادته للحركة الوطنية التركية بدّل مسار الأحداث، وتمكن أتاتورك من فصل "الخلافة" بمعناها الروحي عن "السلطنة" بمعناها السياسي فصلا تاما قبل أن يقوم عام 1924 بإلغاء منصب "الخليفة" للمرة الأولى في تاريخ المسلمين، لينتهي المطاف بآخر سلاطين بني عثمان، محمد السادس، في المنفى.
ووجد المسلمون أنفسهم أمام واقع غير مسبوق، إذ لم يعد هناك من "خليفة" حتى على المستوى الرمزي، بينما بدأت دول مستقلة بالقيام على أنقاض "إمبراطورية" ضمت أجزاء واسعة من المشرق تقطنها شعوب مختلفة، وسرعان ما ثار النقاش بين رجال الدين من الهند إلى المغرب حول مستقبل "الأمة الإسلامية" والموقف الفقهي من التطورات، خاصة وأن أتاتورك نفسه تسلح بفتاوى تؤيد موقفه.
وفي ظل هذا الانقسام، استجاب عدد من كبار العلماء في العالم الإسلامي لدعوة من أجل عقد اجتماع في القاهرة عام 1926 لمناقشة الظروف الراهنة، وكان الملك المصري الراحل، فؤاد، يأمل بأن ينتهي المؤتمر بإعلانه "خليفة" للمسلمين، لكنه أحلامه اصطدمت برفض الكثير من رجال الدين في مصر، التي كانت هي نفسها تحت السيطرة البريطانية، إلى جانب رفض الأحزاب الوطنية التي دافعت عن دستور عام 1923 المصري.
ورغم الحصيلة السلبية لمؤتمر القاهرة، إلا أن نتيجته الأهم كانت إعادة رسم الخريطة الأيديولوجية في المنطقة، إذ برز تيار بقيادة الشيخ رشيد رضا، الذي ارتبط بالشيخ محمد عبده لفترة طويلة، ودافع رضا عن ضرورة وجود "خليفة" للمسلمين، في حين وقف عدد من علماء وشخصيات دول المغرب مدافعين عن أفعال التركية الجديدة، وعلى رأس هؤلاء الشيخ الجزائري عبدالحميد ابن باديس، والزعيم المغربي عبدالكريم الخطابي.
وعلى ضوء هذا الواقع الأيديولوجي الجديد كان أحد أبرز طلاب رشيد رضا، وهو حسن البنا، يضع اللبنات الأولى لتنظيم جديد سيحمل لاحقا اسم جماعة "الإخوان المسلمين"، وكان البنا واضحا في اعتبار أن قرار السير بتأسيس الجماعة هو الرد على سقوط الخلافة، ليضع لاحقا أحد أبرز شعارات الجماعة: "القرآن دستورنا."
مما لا شك فيه أن الكثير من الأمور تبدلت في المنطقة خلال العقود التسعة الماضية، ولكن الطبيعة الغامضة للدساتير في الشرق الأوسط استمرت كما هي، فقد عطلت الحروب والثورات والانقلابات مسار التطور السياسي الطبيعي وخنقت فرص تحديث النظم السياسية وعصرنتها، وتحولت الدساتير إلى أداة في يد المتسلطين وضباط الجيش لفرض لممارسة المزيد من الديكتاتورية والتلاعب بالقوانين.
بالمقابل، كانت الحركات الإسلامية الرئيسية في المنطقة، بما في ذلك جماعة "الإخوان المسلمين" قد تمكنت من إحداث تطوير على صعيد فهمها الدستوري، ومن موقعها المعارض طوال عقود أقرت معظم تلك الحركات بضرورة وجود "صيغة ناظمة" للعلاقات السياسية، تخلصها من التبدل السريع لقواعد اللعبة الداخلية.
ولكن القضية التي ظلت غامضة بالنسبة لتلك الحركات - إلى جانب التنظيمات المتشددة التي رفضت الصيغ الدستورية باعتبارها مرتبطة بأنظمة غير إسلامية الطابع - تمثلت في الازدواجية الظاهرة بشعار "القرآن دستورنا" إذ كان من المفترض التوصل إلى صيغة من وضع البشر تقنن تفوق النصوص الدينية من خلال تأكيدها على مركزية الشريعة، رغم اعتبار تلك القوى في الوقت نفسه أن النصوص الدينية أقوى من أي نص بشري آخر.
ومن غير المفاجئ بالتالي أن تعيش دول ما يعرف بـ"الربيع العربي" حاليا في ظل ورشات عمل دستورية، وقد أظهرت جماعة "الإخوان المسلمين" تنوعا في معالجتها للقضايا الدستورية عبر أفرعها المختلفة، ففي تونس بادرت حركة "النهضة" بنفسها إلى طرح استبعاد الإشارة إلى اعتماد الشريعة في الدستور، مستندة إلى إرث فقهي تطور في سياقات مختلفة عن المشرق، ويرتبط بتركة رجال مثل ابن باديس والخطابي.
أما في مصر، فتبدو القضية أكثر تعقيدا بالنسبة لمرسي وجماعة الإخوان المسلمين، فعلى يمينه تقف القوى السلفية التي تزايد عليه في تأكيد تمثيلها "للإسلام الحقيقي" ما يقلص فرصه للمناورة، وعلى يمينه تقف قوى ليبرالية وقومية وجدت نفسها في تحالف موضوعي مع شخصيات من النظام السابق بمواجهة "مشروع إسلامي غامض" كما قال منسق جبهة الإنقاذ الوطنية، محمد البرادعي، في مقاله بصحيفة "فايننشال تايمز."
قد يصح القول بأن مرسي أخطأ بإصدار الإعلان الدستوري - الذي تراجع عن أجزاء كبيرة منه لاحقا - ويتحمل بالتالي تبعات الأزمة الراهنة، كما يمكن القول بأن المواد المتعلقة بالمرأة والمساواة بين أفراد الشعب وحقوق الأقليات تثير الكثير من الجدل، غير أن هذا الخطأ يأتي من رئيس منتخب بشكل حر للمرة الأولى في تاريخ مصر.
أما النقطة الجديرة بالملاحظة فتتمثل في واقع أن الكثير من التيارات الإسلامية التي كانت توصف بأنها "متشددة" و"راديكالية" قد تمكنت خلال الفترة الماضية من تطوير أدبيات سياسية تسمح بالاحتكام إلى دستور لتنظيم الصراع السياسي الداخلي، ورغم ضبابية وقتامة المرحلة الراهنة إلا أنه يتوجب على من يراقب الوضع الراهن تذكر أن التطور الدستوري في الغرب لم يكن عملية سهلة أو قصيرة.
ترحب شبكة CNN بالنقاش الحيوي والمفيد، وكي لا نضطر في موقع CNN بالعربية إلى مراجعة التعليقات قبل نشرها. ننصحك بمراجعة إرشادات الاستخدام للتعرف إليها جيداً. وللعلم فان جميع مشاركاتك يمكن استخدامها، مع اسمك وصورتك، استنادا إلى سياسة الخصوصية بما يتوافق مع شروط استخدام الموقع.
الآراء الواردة أدناه لا تعبر عن رأي موقع CNN بالعربية، بل تعكس وجهات نظر أصحابها فقط.