عمرو عادلي يكتب عن الاقتصاد العقاري ومشكلة التنمية في مصر
هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
كان شهر رمضان حافلا بإعلانات الإسكان الفاخر في شرق وغرب القاهرة ما ينم على معاودة القطاع العقاري لنموه القوي بعد عدة سنوات من الركود النسبي خلال الاضطراب التالي على ثورة يناير. ويبدو أن الحكومة تعول على القطاع العقاري ليكون قاطرة للنمو كما كان في السنوات بين ٢٠٠٤ و٢٠١٠، وهو ما يظهر في إطلاق المزيد من مشروعات التنمية العقارية مثل العاصمة الإدارية الجديدة في شرق القاهرة، وتأجيل سريان الضريبة العقارية، والتعويل على جذب استثمارات عربية وأجنبية لقطاع الإنشاءات، ومحاولة الحكومة لتحقيق عائد مادي من عرض المزيد من الأراضي الصحراوية للبيع بالمزاد وتحقيق أكبر استفادة ممكنة من انتعاش المضاربات على أسعار الأراضي وبالتبعية العقارات المبنية في المناطق الجديدة المحيطة بالعاصمة.
فهل يصلح القطاع العقاري كقاطرة للنمو والتنمية في مصر؟
إن الإجابة المبدئية هي بالنفي، إذ أن القطاع العقاري قد يولد بعض النمو القائم على المضاربة في أسعار الأراضي الصحراوية، وزيادة الطلب على الصناعات المغذية له مثل الأسمنت وحديد التسليح والطوب وبعض البتروكيماويات إلا أنه لا يصلح كأساس للتنمية في بلد بظروف مصر. وهو ما ظهر بجلاء قبل الثورة عندما كان القطاع العقاري مركزيا في توليد النمو التشغيل، ومع ذلك فإن النموذج الكلي للاقتصاد أثبت قصورا شديدا في تحويل معدلات النمو المرتفعة إلى أشكال من التنمية الحقيقية لجمهور واسع من المصريين. ويعود هذا لعدد من الأسباب أولها أن أساس ارتفاع القيمة العقارية في مصر قائم إلى حد كبير على المضاربة أي أن القيمة هنا لا ترتبط بصلة قوية بالوظائف الإنتاجية للأصول، وهذه ظاهرة لا تقتصر على مصر بل تمتد إلى أغلب اقتصادات العالم في العقود الماضية من التحولات النيوليبرالية، والتي استندت إلى حد كبير على تقييمات مبالغ فيها للأصول العقارية فيما يسميه الاقتصاديون بالفقاعات. وليس من قبيل المصادفة أن هذه الفقاعات العقارية كانت وراء الأزمة المالية الكبرى في ديسمبر ٢٠٠٨، والتي لم يتعاف منها الاقتصاد العالمي.
***
وعلى الرغم من أن القطاع العقاري في مصر لا يخضع لذات الديناميات التي كان يخضع لها القطاع العقاري في الولايات المتحدة أو في دبي أو في بريطانيا ما يجعل تأثير الفقاعات الناتجة عن المضاربة محدودا نسبيا على القطاع المالي وخاصة المصرفي. إلا أن تأثيرات الاعتماد على القطاع العقاري باعتباره النشاط الاقتصادي الأكثر انتعاشا ونموا في بلد مثل مصر له جوانب سلبية عديدة على فرص التنمية وخلق وظائف ذات عائد مرتفع وعلاج الاختلالات الهيكلية في ميزان المدفوعات، والتي تظهر اليوم بوضوح في مسألة نقص العملة الأجنبية والضغوط على العملة المحلية ومحاولات كبس الواردات بكل ما لهذا من آثار ركودية.
فمبدئيا القطاع العقاري بحكم التعريف هو قطاع "غير تجاري" Nontradable بمعنى أنه غير قابل للتداول خارج الاقتصاد الوطني لأن العقارات بحكم التعريف غير منقولة، ولا يمكن تصديرها أو استيرادها، وهو ما يعني أن الاستثمارات الطائلة التي تذهب للعقارات سواء من شركات تبتغي تحقيق أعلى أرباح ممكنة مع تفشي المضاربة في قيمة الأرض، أو من مستهلكين يضعون مدخراتهم في وحدات سكنية خشية التضخم، تضيع على الاقتصاد المصري موارد كان يمكن أن تذهب لقطاعات تجارية خدمية (مثل السياحة) أو صناعية وزراعية لازمة لتحسين وضع ميزان المدفوعات، في وقت تبلغ فيه كل الصادرات المصرية أقل من نصف الواردات، وفي وقت تضاعف العجز في ميزان المدفوعات في السنة المالية الماضية إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه في العام الذي سبقه.
فإذا كان هدف الحكومة على المدى المتوسط والبعيد هو علاج الخلل الهيكلي والمزمن في ميزان المدفوعات فمن غير المعقول أن يستمر النمط في الاستثمار -الحصري تقريبا- في القطاع العقاري وما يرتبط به من صناعات وخدمات لا تسهم في زيادة التصدير ولا تخفيض الواردات.
***
أما القضية الثانية فهي أن المضاربات الكبيرة في القطاع العقاري لا تعكس قوى العرض والطلب تبعا لآليات السوق الحرة إذ أن أسعار الأراضي في المناطق الصحراوية المحيطة بالمدن -وخاصة القاهرة- والتي كان من المفترض أن تكون هي المتنفس للتوسع العمراني والصناعي بعيدا عن المدن المكتظة وخارج الوادي الضيق، هي أسعار بالغة الارتفاع، وتتضاعف غالبا بمعدلات أعلى من التضخم السنوي، ما لا يخضع لأي تفسير منطقي في ضوء حقيقتين الأولى أن هذه الأراضي صحراوية وبالتالي متوفرة كون الصحراء تشكل نحو ٩٦٪ من المساحة الإجمالية في مصر، وتنحصر تكلفتها الفعلية في مد المرافق، وهذه التكلفة لا تبرر بحال الزيادات الفلكية في الأسعار، والتي تنتج عن مضاربات واضحة الدولة طرف فيها خاصة منذ اعتماد آلية المزايدة في عهد المغربي. وهو أمر لا يزال مستمرا ما يجعل ندرة الأراضي الصحراوية مصطنعة وناتجة عن سياسات وممارسات إدارية من جانب الدولة في المقام الأول.
وأما الحقيقة الثانية فهي أن المدن الجديدة التي أنشئت في الصحاري المصرية منذ السبعينيات وحتى اليوم تعاني من نسب إشغال بالغة التدني يضعها البعض عند ما بين ٥ و١٥٪، وما هو يعني أن هذه التوسعات لا تخدم الغرض الأصلي منها وهو استيعاب السكان، في وقت كانت التلبية الحقيقية للطلب على المساكن في مصر فيما تسميه الحكومة بالمناطق العشوائية على الأراضي الزراعية أو الأراضي المملوكة للدولة، وتكفي الإشارة إلى أنه نحو ٦٠٪ من الكتلة العمرانية في القاهرة عشوائية، والتي تحوي نحو٧٠٪ من السكان.
وفي ضوء ما سبق يدور السؤال حول الاستراتيجية المستقبلية للتنمية في مصر، وأي قطاعات جديرة بأن تتلقى موارد البلاد النادرة لتحقيق الزيادة في التشغيل وتعالج الخلل في الموازين الخارجية لا أن تحقق بعض النمو الوقتي القائم على مضاربات ومبالغات.