"مثلنا تمامًا".. ثقب الوجه وتزيينه بالمجوهرات ممارسة تعود للعصر الحجري الحديث
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- للمرة الأولى، اكتشف علماء آثار في تركيا أدلة تربط بين ثقوب الوجه في عصور ما قبل التاريخ وأجساد الأشخاص الذين تزينوا بواسطتها.
تم توثيق الحُليّ الشخصية، منها تلك الشبيهة بالأقراط، التي يُعتقد أنّها زينت ثقوب الجسم، بين شعوب العصر الحجري الحديث أو أواخر العصر الحجري في مواقع متعددة من جنوب غرب آسيا، مع وجود أدلة تعود إلى ما قبل 12 ألف عام.
ولكن لم تُربط أي من الحلي بشكلٍ مباشر بأجزاء الجسد التي ربما تزيّنت بها من قبل.
وكشف تحليل لحفريات في موقع "بونكوكلو تارلا" الأثري في جنوب شرق تركيا، عن مدافن عُثِر فيها على زينة للثقوب بالقرب من آذان وأفواه جثث القبور.
وكان نمط تآكل الأسنان على القواطع السفلية لهذه الجثث، التي يعود تاريخها إلى حوالي 11 ألف عام، يشبه أنماط التآكل المعروفة الناجمة عن نوع من الزينة يُدعى labret غالبًا ما وُضِعت أسفل الشفة السفلية.
وأفاد باحثون في دراسة نُشرت في مجلة Antiquity في 11 مارس/آذار، أنّها المرة الأولى التي يتم فيها ربط زينة الوجه لدى أشخاص من العصر الحجري الحديث من جنوب غرب آسيا، بشكلٍ مباشر بأجزاء الجسم التي ثقبتها. وأكدت النتائج التي توصّلوا إليها أيضًا أنّ هذه الممارسة كانت شائعة بالفعل خلال العصر الحجري الحديث المبكر.
تم دفن أشخاص من جميع الأعمار في "بونكوكلو تارلا"، لكنّ الزخارف الموصوفة حديثًا لم يعثر عليها إلا بالقرب من بقايا البالغين. ويشي ذلك بأنّ مثل هذه الزينة لم يرتديها الأطفال، وأنّ الحصول على هذه الزينة ربما تدل على طقوس بلوغ سن الرشد بين الفئات الاجتماعية، بحسب الدراسة.
وقال عالم الآثار الأنثروبولوجي دوسان بوريتش، الذي يشغل منصب أستاذ مساعد في جامعة سابينزا دي روما بإيطاليا، لـCNN، إنّ هناك أنواع أخرى من الأدلة التي تشير إلى طقوس بلوغ سن الرشد في العصر الحجري الحديث، مثل الدفن الذي يقوم بترتيب الجثة مع مقتنيات معينة، “أو وضع المتوفى في أماكن معينة موصوفة لفئة عمرية بعينها".
وأضاف بوريتش، المشارك في الدراسة: "لكن لا يمكنني التفكير في العديد من الأمثلة الأخرى المقنعة مثل هذا الاكتشاف".
كمية "لا تصدق"
احتل الصيادون وجامعو الثمار منطقة بونكوكلو تارلا بين حوالي 10،300 عام قبل الميلاد إلى 7،100 عام قبل الميلاد، حيث بدأ الناس بالابتعاد عن نمط الحياة البدوي وتشكيل المستوطنات.
وتم التنقيب في الموقع لأول مرة بعام 2012، ومنذ ذلك الحين تم العثور على مجموعة كبيرة من قطع زينة تعود للعصر الحجري الحديث.
وعثر على نحو 100 ألف قطعة أثرية زخرفية حتى الآن، وهو رقم مذهل وفق الدكتورة إيما إل. بايسال، المؤلفة المشاركة في الدراسة، والأستاذة المساعدة في علم الآثار بجامعة أنقرة في تركيا.
وقالت بايسال لـCNN إنّ "الكمية الهائلة لا تصدق".
وتابعت "هذا موقع للأشخاص الذين يعشقون الزينة فقط، أكثر من أي موقع آخر". وأضافت بايسال: "كان لديهم كتل وكتل من الخرز، وكانوا يصنعون حليًّا معقدة من الخرز"، منها القلائد، والأساور، والمعلقات على شكل حيوانات، والزخارف التي يمكن خياطتها على الملابس.
كما صنعوا حليًا لثقوب الأذن والشفاه.
وتأتي زينة Labret، التي لا تزال تُستخدم في بعض الثقافات في الأمازون وأفريقيا، بأشكال متنوعة.
وحدد العلماء 85 قطعة من مدافن بونكوكلو تارلا على أنها حُلي تلبس في ثقوب الجسم، ومصنوعة من مواد مثل الصوان، والحجر الجيري، والنحاس، والسج.
وصنًّف الباحثون زينة Labret إلى 7 أنواع، بناءً على الشكل.
وبحسب الدراسة، فإن الحلي الموصوفة بأنها من النوع 1 تمتعت بـ"مظهر يشبه المسمار"، وربما أُدخلت في لحم أو غضروف الأذن". ويُعتقد أيضًا أن الأنواع المستطيلة 2 و4 و6 هي زينة للأذن.
في المقابل، كان شكل النوعين 3 و5 مناسًا بشكل أفضل لتزيين الشفاه.
واعتقد الباحثون أيضًا أنّ النوع 7، وهو قرص مسطح، هو عبارة عن نوع من أنواع زينة Labret.
تم إزاحة بعض اللابريت من مواقعها الأصلية في القبور، ربما بسبب القوارض، رغم أنها كانت لا تزال بالقرب من منطقة الرأس والرقبة من الرفات البشرية. وأفاد مؤلفو الدراسة أن القطع الأخرى كانت لا تزال "مستقرة في موضعها على السطح العلوي أو السفلي من الجمجمة أو تحت الفك السفلي".
وتابع: "ومع ذلك، لدينا الآن أدلة سياقية قوية وغير قابلة للتحويل من موقع بونكوكلو تارلا أن مثل هذه الحلي هنا، وفي مواقع أخرى معاصرة ربما، كانت مرتبطة بالفعل بهذه الأجزاء من الجسم حيث تم العثور عليها في المدافن، ويحتمل أنها كانت توضع بالطريقة عينها".
"المكانة الاجتماعية"
وخلص الباحثون إلى أنّه رغم دفن الأطفال بالقلائد والخرز، إلا أنّه لم يتمتع أي منهم بزينة للأذن أو زينة labret بالقرب من رؤوسهم، أو أعناقهم، أو صدورهم، ما يشير إلى أنّ ثقوب الوجه كانت مخصصة للبالغين.
وأفادت بايسال أنّه "ربما يكون هذا أمرًا مرتبطًا بكونك بالغًا. وربما يتعلق الأمر بالمكانة الاجتماعية المرتبطة بالعمر، أو دور معين في المجتمع".
وبالنسبة لعلماء الآثار الذين يعملون على فهم كيفية تعريف شعوب ما قبل التاريخ عن أنفسهم أمام بعضهم البعض أو المجموعات الخارجية، فإن الثقوب والأنواع الأخرى من زخارف الجسم تعتبر "أفضل مصدر على الإطلاق للمعلومات التي نتمتع بها عن الناس في هذه الفترات، حتى اختراع الكتابة وتعبير الأشخاص عن أنفسهم بشكلٍ مباشر"، وفقًا لبايسال.
وأضاف دوسان أنّ هذا الشكل من التعبير الشخصي قد يكون متجذرًا في أساطير المجتمعات التقليدية، حيث "يرتبط نوع معين من الأساطير بأصل الحلي وزخرفة الجسم، ما يشي بأهمية تزيين الجسم كفعل يتجاوز المخاوف الجمالية البحتة".
كما أضاف أنّ "ارتداء الزينة الجسدية ربما كان بمثابة أحد أعمال بناء الشخصية وحمايتها".
وتشارك هذه الزينة أيضًا رؤية وثيقة الصلة بشعب العصر الحجري الحديث أكثر من الأدوات، أو غيرها من المصنوعات اليدوية من الحياة اليومية، مع استمرار الدافع البشري للتعبير عن الهوية أو المجتمع من خلال الثقب والزخارف الشخصية الأخرى حتى يومنا هذا.
وقالت بايسال: "عندما ترتدي الأقراط، لا يمكنك رؤية الأقراط التي ترتديها. أنت لا تفعل ذلك لنفسك، لأنك لا تستطيع رؤيتها. أنت تفعل ذلك من أجل كيفية إبراز نفسك للآخرين".
وخلصت إلى أنها لا تعتقد "أنّ هذا قد تغير طوال آلاف السنين. إنها طريقة يمكننا من خلالها التعرف على الأشخاص في الماضي واستنتاج التالي: في الواقع، إنّهم مثلنا تمامًا".