سحر باريس.. عالم موازي في سراديب موت تحت أقدامك وانبهار أعلى برج إيفل
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- لعامين على التوالي، تصدرت باريس استطلاع يورومونيتور إنترناشيونال للمدن الأكثر جاذبية في العالم، وفازت في فئات السياحة، والاستدامة، والأداء الاقتصادي، والصحة، والسلامة.
كل هذه العناصر سيختبرها الوافدون إليها هذا الصيف عندما تستضيف باريس دورة الألعاب الأولمبية والألعاب البارالمبية لعام 2024 في شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، بعد مرور 100 عام على آخر مرة أقيمت فيها الألعاب على الأراضي الفرنسية.
وتستمر المواقع والشوارع الرائعة بجعل العاصمة الفرنسية نقطة جذب كبيرة. فمن حركة المرور في محيط قوس النصر، إلى مشهدية برج إيفل الأخاذة، إلى سراديب الموت المرعبة، وعظمة كاتدرائية نوتردام المنبعثة من جديد، تعد باريس مكانًا سيشعر الحالمون ومحبو التاريخ فيه دومًا بأنهم في منزلهم.
الانبعاث من الرماد
في نوتردام يلتقي ماضي باريس وحاضرها. بدأ العمل في بناء الكاتدرائية الأكثر شهرة في العالم، عام 1163. ويساهم موقعها على ضفاف نهر السين بجعلها إحدى أبرز المعالم في المدينة. فهي شهدت على الثورة الفرنسية، وتتويج نابليون إمبراطورا لفرنسا، وحربين عالميتين.
لكن في أبريل/ نيسان 2019، تعرّضت لحريق مدمّر أثناء عملية الترميم المخطّط لها، حيث دمّر الحريق السقف الخشبي وأدى إلى سقوط برجه في صحن الكاتدرائية. لم تتضرّر الواجهة الكبرى، والأرغن، وجميع النوافذ الزجاجية الملونة، والأعمال الفنية إلا بشكل طفيف، وبقيت سليمة.
في ديسمبر/ كانون الأول 2024، ستفتح كاتدرائية نوتردام أبوابها مجددًا! فالترميم الذي توقع كثيرون أن يستغرق 20 عامًا لاستكماله انتهى في خمس سنوات فقط، ذلك أنه تم الاستعانة بألفي نحات، وبنائي حجر، ونجارين، وفنانين، وقد ضمنت خبرتهم أن عملية الترميم جعلت الكاتدرائية تبدو متطابقة تقريبًا مع ما كانت عليه قبل الحريق.
تولى فيليب جوست منصب رئيس الترميم في عام 2023، وقال إنّ السقف الخشبي يمثل التحدي الأكبر.
وشرح أن "المبنى المصنوع من خشب البلوط احترق، المعروف باسم "لا فلوري"، وسوي بالأرض. أُعيد بناؤه الآن. لقد بحثنا عن آلاف أشجار البلوط في غابات فرنسا".
وأضاف جوست أن ما من شيء لم يتمكن الفريق من ترميمه.
وتابع: "لا يمكنك تحديد ما تم إعادة بنائه، لأن الحجر ذاته استُخدم ونوع العمل عينه نُفّذ. إنه الاحترام الذي ندين به للنصب التذكاري".
وعن مدى اقترابه هو وفريقه من الاكتمال علّق: "أعتقد أننا وصلنا إلى نسبة 85% إلى 90%".
وأردف بأن "العمل هنا رائع، وهو شهادة على حقيقة أن مثل هذه الحرفية بالعمل لا تزال موجودة في القرن الحادي والعشرين".
انعطافة مميتة
لكنّ ماضي باريس لا يتبدّى فقط على مستوى الشارع. فبمجرد الدخول إلى مبنى عادي في منطقة مونبارناس ونزول الدرج إلى تحت الأرض ستواجه تذكيرًا حقيقيًا جدًا بالأشخاص الذين كانت المدينة يومًا موطنًا لهم: سراديب الموت في باريس.
هناك ستة ملايين روح مدفونة هنا، في ما يُعتقد أنها أحد أكبر المقابر الجماعية في العالم.
وقال المرشد السياحي فيما يسير عبر صفوف الجماجم والعظام المصفوفة بدقة في جدران محاجر الحجر الجيري، أن "هؤلاء هم كل الأشخاص الذين عاشوا في باريس على مدى القرون العشرة الماضية".
في أواخر القرن الثامن عشر، واجهت باريس واقعًا قاتمًا حيث شكلت المقابر المكتظة تهديدًا صحيًا خطيرًا لسكانها. وأتى الحل بأن تنقل الجثث من المدافن السابقة إلى مخزن لعظام الموتى داخل محاجر الحجر الجيري الواسعة تحت الأرض في المدينة.
وتحتل سراديب الموت نفسها جزءًا صغيرًا فقط من 300 كيلومتر من المحاجر التي تشكل شبكة معقدة تحت شوارع باريس. إنها واسعة جدًا لدرجة أنه يقال إن مجتمعات بأكملها تعيش بداخلها، حتى أن الحفلات الموسيقية الأندرغراوند تنظم في المشهد الاحتفالي البديل للمدينة.
العدد الهائل من الرفات البشرية هنا يحفّز التأمل العميق.
وقال المرشد السياحي "إن هذا الطابع الدرامي فعال لأن كل من يقوم بالجولة في مرحلة ما يفكر في موته. أفكر: نعم، سيكون هذا مصيري ذات يوم!"
نعم أنت قادر
في حين أن الموتى يشكلون مصدر إلهاء كئيب إلى حد ما، إلا أن هناك أمرًا أكثر حيوية في شارع بولفار دو كليشي، في معلم ممتع وقائم منذ عام 1889: المولان روج (الطاحونة الحمراء).
كان مسقط رأس رقصة الكان كان الشهيرة التي كانت رائدة في تشكيل نوع جديد من الكباريه عندما افتتح في أواخر القرن التاسع عشر، فتستهلّ صيحة استمرت لأكثر من 100 عام. وكان أيضًا مرادفًا لفترة العصر الجميل، عندما كان الرخاء والتقدم يشيران إلى مستقبل أفضل.
اليوم، لا تزال هذه الرقصة أيقونة مميزة (باستثناء الحوادث العرضية)، حيث ترتدي الراقصات والراقصين أزياء مذهلة تجعل حركاتهم أكثر إثارة للإعجاب.
وقالت ياسمين، إحدى الراقصات التي ترتدي هذه الملابس الرائعة مرتين في الليلة يوميًا: "عندما بدأت بارتداء الزي لأول مرة، لم يكن بالأمر السهل، لكنني أرقص هنا الآن منذ ست سنوات، لذا أشعر وكأنه جزء مني".
جنة الطعام
الصبر ليس ميزة فرنسية، لكن عندما يتعلق الأمر بالطعام، فإنهم يأخذون وقتهم. مثل الانتظار في الطابور لوقت طويل بغية الحصول على خبز الباغيت الصباحي.
لقد قامت التكنولوجيا الحديثة بتبسيط العديد من جوانب إنتاج الخبز. ومع ذلك، في باريس، لا يزال هناك تقليد قوي للحرفية اليدوية، والزبائن على استعداد لدفع المزيد مقابل ذلك. في الواقع، في عام 2022 أضافت اليونسكو الباغيت الفرنسية إلى قائمة عناصر التراث الثقافي، اعترافًا بدلالته وأهميته في أسلوب الحياة الفرنسي.
ورغم أن خبز طعامك الخاص من غير المرجح أن يتطابق مع خبز تشتريه، إلا أنه يمكنك على الأقل تجربة تلك الأكلة الباريسية الأساسية الأخرى، وهي العجة. لا أحد يعرف كيف يمكن أن يتفوق على تلك التي يقدمها أفضل طاه الشيف يانيك ألينو. مع حصوله على 16 نجمة ميشلان، فهو يعرف ما يتحدث عنه. في الواقع، يقول إنه عند تدريب الطهاة الجدد، فإن العجة هي أفضل طبق يمكنهم البدء به.
شقة برج إيفل غير المعروفة
وبطبيعة الحال، لن تكتمل أي رحلة إلى باريس من دون زيارة برج إيفل. إنه أطول مبنى في المدينة وينتصب في الموقع الأكثر شهرة، ويرمز ليس فقط لباريس، بل لفرنسا أيضًا. لكنّ قلّة من الناس يعرفون عنه الكثير مثل المرشد السياحي خوسيه رويز كوبو.
كوبو هو من قدامى العاملين في برج إيفل، حيث عمل هنا لمدة 21 عامًا، لكنه يقول إنه لا يتعب أبدًا من تسلق هذا المبنى الأكثر روعة.
وأوضح: "خصوصًا في هذا الوقت المبكر عندما لا يكون هناك أحد هنا، ويمكنك الاستمتاع حقًا بالمنظر".
بالنسبة لكوبو، فإن منطقة المشاهدة العامة في الأعلى ليست الجزء الأكثر تميزًا في برج إيفل. بل الشقة الخاصة بغوستاف إيفل، المهندس الذي ابتكر هذا الهيكل المذهل.
توجد هذه المساحة الصغيرة عند طرف البرج، وهي غنية بالتاريخ، وهي مكان لمنشئه كي يتأمل في أعظم إنجازاته، وهو مبنى يفترض أن يظل قائمًا لمدة 20 عامًا، فقط بعد بنائه في مناسبة المعرض العالمي لعام 1889.
تم تقليص حجم الشقة التي تبلغ مساحتها 100 متر مربع لإفساح المجال أمام الحمامات العامة، لكنها تظل ساحرة كما يمكن أن تتخيلها. ورغم العروض التي لا تعد ولا تحصى، رفض إيفل السماح للمستأجرين بالإقامة فيها.
وقال كوبو: "لقد عرضوا مبالغ ضخمة من المال لاستئجارها لليلة واحدة. لكنه كان مهووسًا بالعلم لدرجة أنه رفض. كان يحضر فقط العائلة والأصدقاء والعلماء. ربما يكون الضيف الأكثر شهرة هو.. توماس ألبرت إديسون الذي أحضر جهاز التسجيل الخاص به".
إنه جزء من برج إيفل لا يدركه سوى القليل من الناس. لا يعني ذلك أن المنظر وحده ليس سببًا كافيًا للوقوف في طوابير لساعات متواصلة بالطبع. إنه بلا شك أفضل طريقة لرؤية باريس بأكملها، المدينة التي يستحيل ألا تقع في حبها.