رأي.. عبدالخالق عبدالله يكتب: أمريكا تراهن على ترامب لعلاج أوجاعها وحل أزماتها
هذا المقال بقلم عبدالخالق عبدالله، أكاديمي وأستاذ العلوم السياسية من الإمارات، والآراء الواردة أدناه، تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
جاء فوز دونالد ترامب مدهشًا وضخمًا، وجاءت خسارة كامالا هاريس صادمة وموجعة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت يوم 5 نوفمبر. لقد زلزلت أمريكا زلزالها مع نهاية اليوم الانتخابي وأخرجت أثقالها في وجه كل من يعتقد أنه خبير في فهم لغز اسمه الناخب الأمريكي العصي على الفهم.
فمن كان يتوقع أن تنهزم كامالا هاريس هذه الهزيمة الموجعة والمركبة؟ لم تنهزم كاملا هاريس وحدها، بل هُزم حزبها شر هزيمة. وسقط معها الصوت النسائي الذي سقط سقوطًا مروعًا وربما أكبر الخاسرين من نتائج 5 نوفمبر هن نساء أمريكا. لقد انتظرت المرأة الأمريكية طويلًا لتحصل على فرصة الوصول إلى البيت الأبيض. جاءت نتائج 5 نوفمبر مزلزلة لطموحها المشروع. بكت المرأة الأمريكية حتى الصباح من هزيمة مرّة أكدت مجددًا أن المجتمع الأمريكي رغم تقدمه وتفوقه وتشدقه بالمساواة ما زال مجتمعًا ذكوريًا يمجد فحولة دونالد ترامب ويرفض أن تسلم القيادة لامرأة حتى اشعار آخر.
ومن كان يصدق أن فوز ترامب سيكون هكذا ساحقًا ماحقًا كاسحًا وخارجًا عن كل ما هو مألوف؟ من رجح فوزه، توقع أن يكون فوزًا بفارق طفيف. استطلاعات الرأي تأرجحت بين فوز هاريس تارة وفوز ترامب تارة أخرى. لكن يتضح للمرة الألف أن استطلاعات الرأي في وادٍ والناخب الأمريكي في وادٍ آخر.
ترامب المدان في 34 قضية إجرامية وجنائية تترواح بين الغش والتحرش واستحواذ أوراق سرية، عاد ملكًا إلى البيت الأبيض وبتفويض شعبي. ترامب الذي حاربه الإعلام والقضاء والأمن ورجال المال والأعمال ومؤسسات الدولة العميقة ينتصر عليهم جميعًا، وعلى وشك أن يضع حزبه ومجلس الشيوخ ومجلس النواب في جيبه لأربع سنوات قادمة يفعل بهم ما يشاء.
معظم من عمل مع ترامب عن قرب بمن في ذلك نائبه ومستشار أمنه القومي وعدد من وزرائه وقادة الجيش الأمريكي، قالوا إنه أحمق وأخرق ونرجسي وخطر على الديمقراطية وغضوب وعديم الاخلاق. تعهد هؤلاء جميعًا بمنع وصوله مجددًا إلى البيت الأبيض. كل ذلك لم يؤثر إطلاقًا على جاذبيته لقاعدته الانتحابية الصلبة. هؤلاء يعرفون ترامب مسبقًا بما له وما عليه، يعرفون أنه عنصري ضد النساء والأقليات وخاصة المهاجرين الذي وصفهم باسوأ الأوصاف الحاطة بالكرامة الإنسانية. رغم ذلك صوت له 74.6 مليون أمريكي دون تحفظ، فهو في نظرهم بطلهم القومي.
هؤلاء يعتقدون أنه الأجدر برئاسة أقوى دولة في العالم، وأكبر اقتصاد في العالم، وأكبر جيش في العالم وأضخم منتج للذكاء الاصطناعي في التاريخ. في المقابل رفض 70.9 مليون أمريكي أن يعطوه صوتهم ولسان حالهم هذا شخص لا يعتد به وغير جدير بقيادة أمريكا.
طبعا صوت 74.6 مليون أمريكي هو الذي رجح فوز ترامب الذي أكد مرارًا وتكرارًا وفي أكثر من مناسبة انتخابية أنه سيتصرف كدكتاتور في اليوم الأول بالبيت الأبيض. مما يثير السؤال عن لغز محير أسمه أمريكا وحال أمريكا 2024 التي خاضت معركة انتخابية حاسمة ومصيرية كانت هي الأكثر كلفة في تاريخ أمريكا، إذ بلغ حجم الإنفاق في انتخابات الرئاسة والكونغرس 16 مليار دولار.
هل حقا يعتقد 74.6 مليون أمريكي أن ترامب سيجعل أمريكا عظيمة من جديد؟ وأنه الزعيم القوي الذي سيعيد لأمريكا وحدتها وهيبتها في العالم؟ كيف آمن هؤلاء بأن شخصًا شديد النرجسية، يمجد ذاته آناء الليل وأطراف النهار لديه عصا سحرية يحل بها أزمات أمريكا الداخلية المستعصية؟
يأتي ترامب إلى قيادة أمريكا 2024 وهي مجزأة سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا تتقاذفها رؤيتان حادتان حول ما هي هوية أمريكا. فنحو 68% من الشعب الأمريكي فقد الإحساس بالانتماء لأمريكا، و64% من الشعب الأمريكي من أصول لاتينية وإفريقية يعتقد أن أمريكا البيضاء تشكك في أمريكيته، و64% من الشعب الأمريكي يشعر بالغربة في موقع عمله. وأمريكا البيضاء التي تشمل 52% من السكان وفي تناقص مستمر تشعر بالرعب من زحف أمريكا الملونة التي تشكل حالياً 48% من السكان وفي تزايد مستمر. أمريكا التي سلمت الراية لترامب هي أمة متخندقة ومنقسمة على نفسها وكارهة لبعضها كما تذكر ديبورا ليفين في كتابها Hate Nation.
74.6 مليون أمريكي يراهنون اليوم أن ترامب والترامبية هما العلاج لأزمات أمريكا الخانقة. فشلت البايدنية وتم رفض من يمثلها كاملا هاريس. وجاء قبل ذلك أوباما والأوبامية لكنها زادت من تخندق الأمة الأمريكية. يراهن هؤلاء اليوم أن الترامبية في صيغتها الثانية قادرة على علاج أوجاع أمريكا المستعصية. البعض يعقتد أن ترامب وحده سيوقف الفجوة المتزايدة بين أمريكا الغنية وأمريكا الفقيرة. والبعض الآخر يرغب بأن يعالج الديون المتراكمة التي بلغت 33 تريليون دولار سنة 2023. والبعض الثالث يتمنى عليه أن يحد من الارتفاع الجنوني في استهلاك الكحوليات والمخدرات والاغتصاب والانزلاق نحو مستنقع العنف الذي لا قاع له. والبعض الأخير يعتقد أن ترامب هو الفارس الذي سيعيد لأمريكا صدارتها في مؤشر التنمية الانسانية الذي يقيس مستوى تعليم الفرد ومعدل دخل الفرد ومتوسط عمر الفرد حيث تراجعت أمريكا من ترتيب المركز الأول سنة 1991 إلى الترتيب 21 سنة 2022.
هذا المؤشر وحده أكبر دليل على أن أمريكا في تراجع وانحدار من الداخل. فهل يستطيع ترامب القادم بتفويض شعبي وقف سيناريو التراجع والانحدار الأمريكي؟ طبعاً هناك 70.9 مليون أمريكي من الذين صوتوا يوم الثلاثاء الماضي لصالح مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس يرفضون تصديق أن الترامبية هي الحل لأوجاع أمريكا. هؤلاء باختصار كارهون لترامب على الصعيد الشخصي أولا وعلى صعيد برنامجه الانتخابي ثانيًا، ويتمنون زواله ويتوقعون فشله ويعتقدون أن رهان 74.6 مليون أمريكي على ترامب هو رهان خاسر، ويقينهم أن أمريكا 2028 ستكون أسوأ حالًا من أمريكا 2024. لقد بدأ العد التنازلي نحو 2028 منذ لحظة الإعلان عن نتائج انتخابات 2024.