(كاتب المقال هو هيثم عبد المولى وما يرد فيه يعبّر حصرا عن وجهة نظر كاتبه ولا يعكس بأي حال من الأحوال رأي CNN)
شدّني خلال الأسبوع الماضي خبران من دولتين هما تونس والمغرب، يجمع بينهما أنهما على علاقة بتناول المسكرات وأنهما قادمان من دولتين يسيطر الإسلاميون على تسيير دواليبهما.
دعونا نبدأ من المغرب، التي عرض فيها أكبر معرض زراعي خمورا قال المسؤولون إنها "حلال" كما تشير الأرقام إلى تنامي متعاطي الخمور حيث كشفت صحف مغربية أنّ استهلاك الخمور عند المغاربة يشمل 400 مليون قنينة بيرة، و38 مليون قنينة خمر و1.5 مليون قنينة ويسكي ومليون قنينة فودكا و500 الف قنينة دجين و 140 الف قنينة شامبانيا مع احتمال أن تضاف لهذه الأرقام جمهورا واسعا من “السكارى الحلال."
والخميس، أعلن وزير النقل الإسلامي نجيب بوليف أن السلطات المغربية ستشرع ابتداء من الصيف القادم في قياس نسبة الكحول لدى السائقين المغاربة. وقد يعدّ ذلك بمثابة إضفاء الشرعية على المحرم دينيا حيث أن جهاز قياس نسبة الكحول سوف يشرعن استهلاك الخمر بالنسبة للمسلمين المغاربة ورجال تنفيذ القوانين سيقومون بقياس نسبة الخمر وليس شرب الخمر فقط --هيثم عبد المولى-مدون تونسي .
وفي تونس لفتني مقال آخر نشرته جريدة الشروق نقلت فيه عن تقارير رسمية أنّ استهلاك البيرة والخمور في تونس ارتفع بعد سنة 2011 إلى 22 % مقارنة بسنة بما كان عليه سنة 2010، وهى نسبة مرشحة للارتفاع وقد تبلغ معدلات قياسية فى صائفة 2014 ،حيث يستهلك التونسيون يوميا وفق نفس المصدر حوالي نصف مليون قارورة وعلبة بيرة. كما يستهلك التونسيون 200 مليون قارورة خمر سنويا ليتصدروا المرتبة الخامسة عالميا مقارنة بعدد السكان، وفقا للتقرير--هيثم عبد المولى-مدون تونسي .
كيف استعرت الحرب؟
ومنذ أقل من شهرين، اندلعت حرب طاحنة في سوق البيرة التونسي بين العملاق العالمي الهولندي "هاينيكن" و الشركة التونسية المحلية الخاصة للجعة و التبريد، التي تنتج بيرة محلية اسمها "سلتيا" وهو المنتج الوطني و الحصري للبيرة في تونس منذ أكثر من نصف قرن. حيث أنشأ العملاق الهولندي علامة تجارية جديدة : "بربر" بكسر البائين لمنافسة "سلتيا." حرب تجسدت بحملات دعائية مكثفة على الفيسبوك و جدل وطني كبير حول هذا الوضع التنافسي الجديد في بلد لم تؤثر التقاليد الإسلامية الصارمة في تحريم الكحول على تطور سوق الخمور و ارتفاع معدلات استهلاكها. فبين متعصب للمنتج المحلي الذي يعد بمثابة الرمز الوطني الكبير ، و "البيرة التاريخية" التي رافقت العديد من التونسيين في أفراحهم و أتراحهم و بين مستبشر بالبيرة الجديدة و بقدرتها على تقديم الجودة و السعر المناسب وفقا لقواعد المنافسة التي تبدو من البداية حامية الوطيس.
و لكن ما البيرة ؟
ربما هو سؤال غبي جداً لو كان المتلقي أحد المواطنين في الدول الغربية المتقدمة أو دول جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية أو الصين، لكنه سؤال في غاية الجدية لمن ينتمي لدولة أغلبية سكانها من المسلمين .
البيرة هي مشروب كحولي خفيف ، معدل نسبة الكحول فيه 5%. يبدأ إحساس السكر بعد شرب ما لا يقل عن لترين من البيرة بالنسبة لمن يشرب بشكل نادر. وتصنع البيرة من منقوع الشعير أو ما يعرف بالملت وهو حبوب (الشعير) منتشة تم تجفيفها في عملية تعرف باسم "تخمير" حيث تنقع الحبوب في الماء لانتاشها ومن ثم يتم إيقاف الإنبات عبر تجفيفها بالهواء الساخن. يضاف الى هذا المنقوع الجنجل و خميرة البيرة، وهي نفس الخميرة المرتبطة بالخبز.
ترتبط البيرة بالثورة الزراعية قبل عشرة آلاف سنة و تعد مؤشرا على التطور الحضاري بحسب علماء الأنثروبولوجيا وهي بذلك تعدّ اقدم مشروب كحولي و ثاني أقدم منتج غذائي صنعه الانسان بعد الخبز. صنعت البيرة للمرة الأولى في العراق القديم انطلاقا من تخمير الخبز القديم في الماء و سميت ب "سيكارو" أي الخبز السائل باللغة السومرية القديمة. و من ثم انتشر المشروب في جميع أنحاء العالم و أصبح مشروبا رسميا للآلهة في مصر القديمة حيث يعين الفرعون كبير صانعي البيرة و المسؤول عن جودتها. أما في سوريا القديمة فقد كانت البيرة عملة للتبادل التجاري و دليل رقي حضاري.
تطورت صناعة البيرة في العالم بشكل كبير و تمكنت دول كألمانيا و بلجيكا و ايرلندا من تطوير المنتوج. فظهرت البيرة بألوان متنوعة و درجات كحولية مختلفة و نكهات تتفاوت بين طعم الشعير ذي المرارة الخفيفة و بين نكهات الغلال المتنوعة. كما أصبحت البيرة ثالث أكبر مشروب يتناوله البشر سنويا بعد الماء و الشاي، وهي أكثر استهلاكا من القهوة. وتحتل ألمانيا صدارة مستهلكي البيرة حسب أرقام سنة 2005 بأكثر من 160 لترا للمواطن الألماني الواحد في السنة تليها تشيكيا و إيرلندا.
سوق البيرة في تونس
يستهلك التونسيون يوميا، وفقا لأرقام رسمية اطلعت عليها من وثائق أعدها صناعيون على علاقة بالإنتاج، نصف مليون قارورة بيرة و مائة ألف زجاجة نبيذ. و يقدر عدد مستهلكي الخمور من التونسيين بحوالي مليون و سبعمائة ألف أي 17% من عدد السكان وهي نسبة هائلة في بلد 97% من سكانه من المسلمين .و قد نما استهلاك البيرة في تونس بمعدلات كبيرة بعد الثورة سنة 2011 وصلت الى 10 % بالنسبة للبيرة و 15 % بالنسبة للنبيذ و خصوصا بعد وصول الإسلاميين الى السلطة وهو ارتفاع تحملت أعباءه الشركة التونسية للتبريد و الجعة المنتج الحصري للبيرة في تونس منذ نصف قرن عبر علامتها التجارية سلتيا ! و قد اضطرت الشركة الى عدم إيقاف الانتاج في رمضان كما جرت العادة تلبية لطلبات الاستهلاك الضخمة.
و رغم أن توزيع البيرة يتم في أماكن محدودة وفق ضوابط مشددة الا أن استفحال السوق السوداء و لهفة المستهلك التونسي و خصوصا الشباب جعل الحصول على البيرة مطلبا أساسيا للاحتفالات و السهرات. وقد رفعت حكومة النهضة الضريبة على البيرة بحوالي 20% الا أن هذا لم يؤثر على معدلات الاستهلاك التي تزداد ارتفاعا سنة وراء سنة--هيثم عبد المولى-مدون تونسي .
تجدر الإشارة أن تونس تتحمل أيضا أعباء السوق الليبية. فرغم الطابع المحافظ للمجتمع الليبي قبل و بعد الثورة الا أن الليبيين يشربون بنهم شديد عندما يزورون تونس للسياحة. و قد تطورت تجارة طريفة على الحدود التونسية الليبية يمكن أن نصطلح عليها بتجارة النفط مقابل الخمر.
كل هذه المعطيات تجعل السوق التونسية للبيرة واعدة و مبشرة مما جعل العملاق الهولندي "هاينكن" يضعها تحت مجهره و يحاول اقتحام هذا السوق النشط.
تنافس ضار
في سنة 2008، دخلت الشركة الهولندية السوق التونسية عبر علامتها التجارية المعروفة. كان دخولا واثقا و قويا حيث تمكنت الشركة لتوها من أن تنافس بقوة وتتبادل مع العملاق الأمريكي Anheuser-Busch السيطرة على هذه السوق مما جعل السوق التونسية ذات العشرة ملايين نسمة أشبه بلقمة سائغة سهلة المتناول . لكن النتائج كانت مخيبة للآمال. حيث واضب التونسيون على استهلاك منتوجهم و لم يلتفتوا للمنتوج الأوروبي في ظاهرة نادرة حيث أنه من العادة أن تسقط صناعات جنوب المتوسط بالضربة القاضية أمام منتجات شمال المتوسط.
ويبدو أن طعم المنتوج الجديد، ابدا خفيفا للتونسيين، مما جعلها تصبح البيرة الاحتياطية لهم ولا يتناولونها إلا متى اختفى منتوجهم المجلي من رفوف المغازات، وهو وضع استنفر مسؤولي الشركة الهولندية عبر ممثلها في تونس مما دفعه إلى استئناف العمل بصمت لتضخ الشركة في الأسواق بداية هذا العام منتجا جديدا اسمه "بربر."
لم تكن تسمية "بربر" اعتباطية ، فهي المصطلح الشعبي الفكاهي الذي يطلقه التونسيون على البيرة. وهي تسمية يعود الفضل في اختراعها الى الكوميدي التونسي الراحل نصر الدين بن مختار في إحدى اسطواناته منذ خمس و عشرين عاما . و قد انتشر استخدام هذه الكلمة في عموم الأوساط التونسية للتندر و الفكاهة و تحاشي كلمة بيرة التي تحيل في المخيال الشعبي على الحرام و على السكر و العربدة.
بإطلاق تسمية كهذه ضمنت العلامة الأجنبية أن يكون اسم ماركتها الجديدة شعبيا و متداولا بقوة و بسهولة بين التونسيين. إذ يصبح منتجها مرادفا للبيرة نفسها في عقولهم. ولم تكتف بذلك بل اعتمدت ألوانا تحيل على تونس بشكل أساسي وهي الأخضر و الأحمر: الأخضر لتونس الخضراء و الأحمر لرمز البلاد و لون علمها. وزينت العلبة برموز تاريخية تونسية كالسفينة القرطاجية و حرف ياز الأمازيغي.
كما نجحت الشركة الهولندية عبر قدرتها المالية الضخمة في خفض ثمن مشروبها مقارنة بالمشروب المحلي وهي استراتيجية تراعي الارتفاع العام لأسعار الخمور نتيجة الضرائب الكبيرة و انخفاض مستوى المعيشة للتونسيين بسبب الأزمة الاقتصادية.
ما ان انطلق بيع "بربر" رسميا في الأسواق، حتى اندفع المستهلك التونسي لشراء هذا المنتج الجديد، يحفزه الفضول و الحملة الترويحية القوية، لكن انتعاش الإقبال على المنتج الجديد لم يستمر سوى أسابيع، حيث سرعان ما عاد التونسيون إلى "حبيبة الجماهير" كما يطلقون على منتوجهم المحلي الوحيد في السوق طيلة نصف قرن أو يزيد.
وفي ما بدا إرضاء لوفاء المستهلكين المحليين، قررت الشركة "الوطنية" إنتاج نوع جديد تحت اسم "ستيلا الذهبية" قالت إنه سيكون مماثلا لجعة "بيكس" الشهيرة. والأهم من ذلك أنّ السعر لن يتجاوز 0.95 دينارا أي تقريبا 0.7 دولارا بما يجعل سعرها مماثلا تقريبا لسعر قارورة مياه معدنية.