هذا المقال بقلم محمد محمود الإمام، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
عقب الحرب العالمية الثانية قرر الأوروبيون التخلي عن الاستعمار المباشر الذي تسبب في صراع مستمر بينهم على خيرات المستعمرات وأسواقها، والحرص على ألا يقوم في أي من دولهم نظام أوتوقراطي يكرر ما فعله هتلر بمحاولته ممارسة الاستعمار عليهم. فقرروا السعي إلى الوحدة، واتخذوا المجال الاقتصادي مدخلا لها، مع إعادة بناء الاقتصاد العالمي وفق أسس تكفل منح المستعمرات استقلالا شكليا، مع توظيف شبكة العلاقات الاقتصادية الدولية في إقامة استعمار جديد يسمح بمواصلة حصولهم على مغانم الاستعمار القديم دون تحمل تكاليفه، يقوم على توطيد أركان عدم التكافؤ وإحلال تبعية اقتصادية تماثل ما طبقته الولايات المتحدة على نصف الكرة الغربي. فسعوا إلى تحويل أسواقهم إلى سوق مشتركة بدءا بإقامة اتحاد جمركي، رحبت به الولايات المتحدة حتى تتعامل معها تجاريا ككيان واحد، تنساب فيه صادراتها إليها من أي نقطة فيها. وفي نفس الوقت تمكنهم من تعلم كيفية التشارك في اتخاذ القرارات على المستوى الإقليمي.
***
وأثار هذا نوعين مختلفين من رد الفعل لدى العرب: الأول: التخوف من أن تؤدي تلك السوق المشتركة إلى تهديد مصالح دولهم، وإضعاف قدرتهم في الاقتصاد العالمي؛ والثاني: تصور أن محاكاة ذلك الأسلوب يفيدهم ليس فقط برفع قدرتهم على التعامل مع هذا التكتل الأوروبي، بل وفي استعادة وحدتهم التي رسخ في أذهانهم أن الاستعمار الأوروبي أعاقها، ثم حرص على تفتيت الوطن العربي إلى دول تتصارع فيما بينها لكي يتيسر له مواصلة السيطرة عليها في ظل الاستعمار الجديد. واقترن بذلك التصدي لمحاولة الدول الاستعمارية تمزيق الوطن العربي بدفعها هيئة الأمم المتحدة عند بناء منظومتها الإقليمية القائمة على تقسيم العالم جغرافيا، إلى استبقاء المنظور البريطاني للجزء الجنوبي من العالم القديم الواقع شرقها بتقسيمه إلى ثلاثة أقاليم: أدنى وأوسط وأقصى، إلى جانب أفريقيا جنوب الصحراء. فحاولت إنشاء لجنة اقتصادية إقليمية للشرق الأوسط بجانب لجان أوروبا والشرق الأقصى وأمريكا اللاتينية، تمهد لغرس الكيان الصهيوني في الجسد العربي، وإضافة المغرب العربي إلى إقليم أفريقي. وصاحب ذلك تشكيل حلف تابع لها جنوب الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة معه، يضم إيران وتركيا والعراق، فيما أطلق عليه حلف بغداد، فتصدت له مصر الناصرية التي استصدرت من اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية قرارا في 1954 بالعمل على إقامة وحدة اقتصادية على مراحل بأقصى سرعة.
***
وكشفت مفاوضات الوحدة بين الدول العربية المستقلة آنذاك، عن اختلافات في الرؤية انطلقت من خلاف سابق بين سوريا ولبنان حول تطوير اتحاد جمركي أقامته فرنسا بينهما عند جلائها عن أراضيهما في 1943، إذ فضلت سوريا تعميق التكامل ليساعدها على تعزيز نموها الاقتصادي، بينما غلبت لبنان حرية التجارة على المستوى العالمي، ومال الأردن المعتمد بدرجة كبيرة على العلاقات الاقتصادية مع جيرانه العرب إلى الرأي السوري، في حين رجحت السعودية النظرة اللبنانية خشية أن تتسلط النظم الاقتصادية في الدول الأكثر تطورا على اقتصادها الضعيف، وتهدد النظم السياسية لتلك الدول نظامها الحريص على صيانة وحدة أراضيها التي تمت بحد السلاح، وحفظ المُلك للأسرة المالكة.
وبينما نجح الأوروبيون في إقامة اتحادهم الجمركي في حوالي عقد من الزمان، ثم واصلوا السير نحو الاتحاد الاقتصادي، ورفع عضوية تجمعهم من ست دول إلى 28 دولة، عجز العرب عن إنجاز وحدتهم الاقتصادية على مدى خمسين عاما، بل وعن استكمال تحرير تجارتهم البينية -- محمد محمود الإمام الذي بدأوه في 1953 وظلوا يرددون التساؤل عن سر فشلهم فيما نجح فيه الأوروبيون، رغم أن روابطهم الثقافية والاجتماعية أقوى من نظيرتها الأوروبية، وأن لديهم من التفاوت في وفرة الموارد ما يعود على الجميع بالخير، بانتقال المال من دول الوفرة إلى دول العجز مقابل انتقال الأيدي العاملة المتعطلة في هذه الأخيرة إليها. ولو دققنا علميا في مناقشة هذه التساؤلات لوجدنا أن ما تستند إليه هو سبب ذلك الفشل.
***
إن الأساس في اتخاذ السوق المشتركة مدخلا لتكامل إقليمي يستهدف الوحدة هو تقارب الدول الأطراف في مستويات النمو الاقتصادي واتباع حرية السوق -- محمد محمود الإمام، وفي نظم سياسية تكفل مشاركة جميع فئات المجتمع في إقرار مراحل التكامل المتعاقبة، وتماثل آليات رسم السياسات اللازمة لتسيير اقتصادات الدول الأعضاء. فضلا عن امتلاك الدول المؤسسة قدرة على المساعدة في تأهيل دولا أخرى تريد الانضمام؛ وأن تكون قد قطعت شوطا طويلا في التصنيع يكسبها القدرة على إنتاج السلع الرأسمالية اللازمة لإقامة طاقات إنتاجية جديدة نزيد جدواها بإزالة القيود الجمركية فيما بينها. وهو أمر لا يتيسر لدول كل ميزتها امتلاك فوائض مالية تبحث عن فرص استثمار خارج الحدود ولكنها محدودة القدرة على إنتاج معدات استثمارية. ولا تعود أهمية التكامل إلى أنه يزيل العقبات أمام التعامل البيني فتتحول إليه المبادلات مع العالم الخارجي، دون إحداث توسع ذي شأن في القدرات الإنتاجية المحلية، بل في توسع القواعد الإنتاجية للدول الأعضاء نتيجة خلق فرص جديدة للتعامل معا دون إنقاص حجم تعاملها مع الخارج بل ربما تزيد منه أيضا. ويعبر عن هذا بمقولة "خلق التجارة لا تحويل التجارة" لأن هذا الخلق يعني إضافة إنتاج يجعل التكامل رافدا للنمو الاقتصادي.
***
يذكر أن هذا الوضع لم يكن متاحا لمجموعة الدول الاشتراكية ليس فقط لأنها لا تعتمد آليات السوق، بل وأيضا لأنها كانت تضم دولا متباينة في مستويات النمو، وبعضها شديد الاعتماد على الأسواق العالمية. لذا عمدت إلى دعم اقتصاداتها بتبادل المعونات الاقتصادية وفق خطط تضعها دول تدير بذاتها النشاط الاقتصادي. وعندما استطاعت أن تحقق تقاربا مقبولا لم تتمكن من الانتقال إلى تكامل تديره منظمة إقليمية لأنها كان يجب أن تمتلك سلطات حكومية إقليمية. أما الدول النامية ومنها العربية، فلم تكن تستطيع تطبيق أيا من المنهجين. وكانت مشكلتها معقدة: فهي حديثة الاستقلال تسعى لبناء جهاز حكومي لم يتأهل بعد لممارسة الوظائف التقليدية: الأمن والعدالة والخدمات العامة والعلاقات الخارجية، ومن باب أولى الإشراف على الشؤون الاقتصادية إذ لا تتوفر لديها الخبرات ولا الأموال ولا المعرفة الفنية بها. وتأتي نسبة هامة من مواردها العامة من الرسوم الجمركية، ومن النقد الأجنبي من تصدير منتجات من نوع وبحجم تحدده الدول الاستعمارية، ومن أبرز نماذجها النفط. فهي تحتاج إلى عون كبير لإنشاء قواعد إنتاجية تعزز قدراتها الذاتية، ثم العمل على اكتساب قدر مناسب من الاعتماد على النفس لتسيطر على مواردها وقدراتها الاقتصادية، قبل أن تسعى للاعتماد المتبادل فيما بينها. كما أن الدول التي تقطع شوطا في التكامل، لا تملك القدرة على تأهيل الدول التي تنضم بعد استقلالها، فضلا عن أن بعضها، كالدول الخليجية تحتاج إلى وقت طويل لبناء اقتصاد متحرر من سيطرة النفط. وهكذا فإنه بينما يساعد التكامل الإقليمي الدول المتقدمة على مواصلة تقدمها، فإن الدول النامية تحتاج إلى تعاون لتعزيز قدراتها الإنتاجية لتصبح مؤهلة للدخول في تكامل -- محمد محمود الإمام فيما بينها.