هذا المقال بقلم ماجد عثمان، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
ما حدث في تمويل مشروع شهادات قناة السويس من تدفق 64 مليار جنية على البنوك في ثمانية أيام يدعو للدهشة. وقد يرى البعض أنه لا داعي للدهشة لأن فائدة الشهادات مغرية لكل مستثمر، وأن ما حدث في الغالب انتقال من وعاء إدخاري لوعاء إدخاري آخر يُحقق ربحا أعلى. وكل هذه التحليلات لها وجاهتها، ولكن ما أثار دهشتي ليس مجرد تدفق 64 مليار في ثماني أيام، ولكن في التفاصيل التي أعلنها محافظ البنك المركزي حول تحليل طلبات الشراء المنفذة من حيث عددها وقيمتها.
ذكر محافظ البنك المركزي أن 82% من طلبات الشراء جاءت من أفراد أي أن عددهم 902 ألف مواطن مصري، وضخامة عدد المشترين والذي يقترب من المليون يؤكد أن المشترين ليسوا من كبار رجال الأعمال الهادفين إلى تحقيق ربح أعلى، وبالتالي فإننا بصدد ظاهرة مشاركة شعبية حقيقية في ظروف اقتصادية ضاغطة.
وما أثار دهشتي ربما بدرجة أكبر وأثار سعادتي أيضا هو المعلومات التي أعلنها محافظ البنك المركزي حول أعداد المشترين حسب قيمة الشهادات المشتراة -- ماجد عثمان. ذكر المحافظ أن 170 ألف مواطن اشترى كل واحد منهم شهادة بمبلغ عشرة جنيهات، وأن هناك 150 ألف مواطن اشترى كل واحد منهم شهادة بمبلغ مائة جنيه. وهي أرقام لها دلالاتها التي يجب التوقف عندها. فالمواطن الذي يتكبد مشقة الانتقال من منزله إلى البنك ويقف في الطابور لفترة طويلة ليشتري شهادة بعشرة جنيهات لم يتخذ قراره الاستثماري بناء على حسابات المكسب والخسارة. ويعلم المواطن أن العشر جنيهات لن تضيف له بعد خمس سنوات سوى ست جنيهات وبالتالي فمن المؤكد أنه يعتبر هذا المبلغ تبرعاً لمساندة المشروع ولمساندة الوطن الذي شعر أنه يحتاج إليه لتنفيذ مشروع يتوق له الجميع. ونفس الشيء ينطبق على الشريحة الثانية التي أسهمت بمئة جنيه فهي من المؤكد لم تشارك طمعا في ربح أعلى ولكن لأسباب وطنية تعكس مشاعر الإحساس بالمسئولية.
***
إذا حسبنا إجمالي قيمة استثمارات هؤلاء المواطنين الذين بادروا بالمشاركة في التمويل لأسباب لا تمت بصلة لتحقيق مكسب مادي نجد أنها تصل إلى 16.7 مليون جنية، وهو مبلغ زهيد مقارنة بإجمالي التمويل ولا يصل إلى واحد في الألف من المبلغ الذي تم جمعه، وربما يقل بكثير عن مساهمات رجل أعمال واحد. ولكني أراه مثل الهدية التي يقدمها ابن لأمه في عيد الأم وقد استقطع ثمنها من مصروفه البسيط، والهدية قيمتها المادية بسيطة ولكن دلالتها المعنوية بالنسبة للأم تفوق بكثير قيمتها المادية -- ماجد عثمان
دلالة هذه الواقعة يجب ألا نمر عليها مرور الكرام، وهنا أشير إلى أمرين:
أولا: إن من يفكر في مستقبل مصر في ضوء المعطيات الاقتصادية وفي ضوء التحديات الداخلية والخارجية وفي ضوء تراجع العديد من المؤشرات التنموية ومؤشرات التنمية البشرية مقارنة بدول العالم يصاب بالإحباط. إلا أن المراهنة على المواطن المصري بما يمتلك من مخزون حضاري كامن تحت هذه القشرة من الصدأ قد يغير الحسابات ويدعو إلى التفاؤل بالمستقبل. لا أقول هذا الكلام لأستدعي رومانسية تخفف من التحديات التي تواجهنا، ولكني أظن أن المراهنة على إطلاق العنان للقوة الكامنة التي اختزنها الشعب المصري عبر القرون تستحق بلاشك أن نراهن عليها. وما قام به الشعب المصري في حرب 73، وما قام به في ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو كان استجابة لتحدي أطلق قوة لا يمكن قياسها في أعقد النماذج الرياضية والإحصائية التي تستخدمها مراكز الأبحاث السياسية لتحاول توقع ردود أفعال الشعوب.
ثانيا: أعتقد من واجب الحكومة أن تعي رد الفعل الإيجابي للشعب عندما شعر بصدق النوايا وجدية التنفيذ. الفرصة التي أرجو ألا تضيع هو عدم النظر لهذه الواقعة بمعزل عن السياق العام الذى يمر بمصر. وأقصد هنا أن رد الفعل الإيجابي في تمويل شهادات استثمار قناة السويس يمكن أن يتكرر في مشروعات أخرى تغير وجه الحياة في مصر، ولا يقتصر الأمر على جمع تمويل لمشروعات أسمنتية وإنما يمكن أن يمتد أيضاً لمشروعات قومية "افتراضية" مثل النهوض بالتعليم أو محو الأمية. وتكرار هذا النمط ممكن إذا قامت الحكومة برد الجميل من خلال التعامل مع الشعب المصري بشكل لائق يحترم حقوقه ولا يستخف بعقليته.
***
أقول هذه النصيحة للنخب الحاكمة ولا أقصد رئيس الجمهورية فقط، بل أيضاً لدائرة إتخاذ القرار وعلى وجه الخصوص الأجهزة الأمنية التي تلعب دوراً هاماً في إعادة بناء مؤسسات الدولة وبنيتها التشريعية. وأبسط ما يجب أن تقوم به الحكومة هو شفافية وإفصاح كامل عن المعلومات حول مشروع قناة السويس.
ومن المناسب في هذا الصدد أن أشير إلى أن الموقع الالكتروني لمجلس الوزراء لا يحتوي أية تفاصيل عن متابعة تنفيذ المشروع -- ماجد عثمان، على الرغم من أن هذه المتابعة تتم (على حد علمي في اجتماعات مجلس الوزراء)، كما أن موقع هيئة قناة السويس لا يحتوي سوى 5 أسطر حول المشروع. ألا يستحق هذا الشعب وهو شريك في ملكية المشروع تقرير حول العائدات المتوقعة من المشروع (ما نشرته وسائل الإعلام يتراوح بين 5 أضعاف إلى 100 ضعف الإيرادات الحالية) مع تحديد لمؤشرات الأداء المستخدمة لتقييم مدى نجاح المشروع في تنفيذ أهدافه، ألا يستحق أصحاب المشروع تقريراً أسبوعياً أو حتى شهرياً عما يتم إنجازه في المشروع بناء على مؤشرات أداء تشمل التدفقات النقدية وفرص العمل التي يولدها المشروع ومدى الالتزام بالبرنامج الزمني.
هل حق المعرفة يقتصر على كبار المسئولين فقط. وإذا أنكرنا على أصحاب المشروع حق المعرفة، وطبقنا المفهوم الضيق "المعرفة على قدر الحاجة" ألسنا بحاجة إلى محاربة استباقية للإشاعات التي قد تشكك في المشروع -- ماجد عثمان، ثم ألسنا بحاجة إلى الحفاظ على ثقة الشعب وإلى استمرار مشاركته في مشروعات قادمة، وأخيراً ألسنا بحاجة إلى إحساس المواطن بالإنجاز.
وفي النهاية هل تعودنا على أن نخشى الحقيقة حتى لو كانت في صالحنا؟