سوق "البالة" في دمشق.. ملاذ الفقراء في الأعياد ومهجري الحرب والباحثين عن الجودة

اقتصاد
نشر
7 دقائق قراءة
تقرير محمد الأزن
سوق "البالة" في دمشق.. ملاذ الفقراء في الأعياد ومهجري الحرب والباحثين عن الجودة
Credit: CNN

(CNN)-- يلقى سوق "البالة" أو الملابس المستعملة بدمشق إقبالاً متزايداً مؤخراً، على بضائعه، بسبب غلاء الألبسة الجديدة محليّة الصنع، وانخفاض القوة الشرائية لليرة السوريّة بين يدي الناس، هذا السوق ومنذ زمنٍ بعيد لم يكن ملاذ الفقراء فحسب، وإنمّا الباحثين عن معاييرهم الخاصّة للجودة، كما يلجأ إليه في الفترة الأخيرة مهجري الحرب للتعويض عمّا تركوه وراءهم، هاربين من المناطق الساخنة بالملابس التي عليهم.

موقع CNN بالعربية زار سوق "البالة" بحي "الإطفائية" في قلب العاصمة السوريّة، وتجوّلنا على بسطات الملابس المعروضة، والصالات حيث كرّس التجار بيوتاً شاميّة واسعة لعرض بضائعهم والتي لا تقتصر على الألبسة المستعملة بأنواعها فقط وإنما الأحذية، الأغطية، الحقائب...، ويمضي الزبائن في هذا السوق وقتاً طويلاً للشراء، يبدأ باختيار ما يلبي احتياجاتهم، وصولاً إلى "البازار"، أو المفاصلة على السعر، وهو فن يجيده الدمشقيون تجاراً، ومشترين.

"ندى" معلمّة مدرسة، بدت منهمكة باختيار  بنطال جينز، وبلوزة من "البسطة"، ولم تجد حرجاً في الحديث لـ CNN بالعربية، عن  ولعها بالألبسة المستعملة، ورخص أسعارها، وامتداح جودتها، فيكفي أنّها "أوربية المصدر، ولا تبلى بسرعة، كما هو حال بعض البضائع المحليّة رغم ارتفاع سعرها"،  وأكدت بحماسة أن الموضوع ليس مرتبطاً بفقر الحال، وإنما بالبحث عمّا هو جيد، فهي تحرص ألا تضيّعَ نقودها بلا طائل، هنا يتدخل "أبو سعيد" صاحب "بسطة" المعروضات، قائلاً: "زبائن (البالة) لا يقتصرون على الناس الفقراء، فثمّة زبائن يرتادون السوق من مختلف المستويات الاجتماعية، والمقتدرون منهم يجدون ضالتهم في البضاعة (الكريم)، وهي عبارة عن تصافي المصانع، والمولات الأوربية، وأعلى مستويات البضائع المعروضة هنا، حيث تصلنا جديدة، مع كرت المبيع، ويكون سعرها أعلى، وهناك من يفضلها على أرقى ماركات الملابس المحليّة الصنع." ويتقبل البائع برحابة صدر الانتظار الطويل، ريثما ينتهي زبائنه من انتقاء ما يريدون، قبل بدء عملية المفاصلة، يبتسم، شارحاً: "أتى اسم (البالة)؛ من طولة البال التي يجب أن يتحلى بها الزبون ليحظى بما يريد، والبائع لكي يبيع ما لديه."

منذ زمنٍ طويل، واستيراد "البالة" محظور من جانب السلطات السوريّة، لحماية الصناعة الوطنية،  لكن هذا السوق لم يتوقف عن العمل، والبضائع تصل إليه عن طريق التهريب من الإمارات، والأردن، ولبنان التي أصبحت المصدر الوحيد لبضائعه مؤخراً، بحسب ما أوضح "أبو كنان" لـ CNN بالعربية، وهو أحد ملاّك صالات البيع في السوق، ولدى دخول صالاته، نرى مشهداً مختلفاً عن حال بسطات العرض الصغيرة، حيث تبدو البضاعة مرتبّة، مكويّة، ومفروزة بحسب الجودة، مع توفر غرفةٍ للقياس، ما يجعل عملية اختيار الزبون  لما يريد أسهل، قال البائع الثلاثيني إنه بدأ العمل بهذه المهنة منذ عامين تقريباً، وشرح لـ CNN بالعربية: "نشتري الملابس المستعملة بالكيلو، حيث تصل إلينا من لبنان مفروزةً، بحسب جودتها، ونوعها: بنطلونات، كنزات، فساتين، رجالي، نسائي، أو البسة أطفال، وأعرض في صالتي أفضلها، بسعر يصل لـ(9 دولارات تقريباً للكيلو الواحد)، نقوم بكيّها، وعرضها، لتصبح جاهزة للبيع، ويتراوح سعر القطعة الواحدة، كبنطال الجينز على سبيل المثال بين الـ(7 و9 دولارات)، بينما يكون ثمن  البنطال الجديد المحلي الصنع (14 دولار) بالحد الأدنى."

ولفت أبو كنان إلى أن بضاعة "البالة" الرخيصة المعروضة على البسطات: "لا يتجاوز سعر الكيلو منها  الـ(2 دولار)، وتعرض في أكوام دون كيٍّ، أو فرز، ويكون سعر القطعة الواحدة بحدود الدولارين أيضاً."

تبدو هذه التجارة مربحةً إذاً، هذا ما يؤكده "أبو محمد" صاحب  أحد المحلاّت في "سوق بالة الإطفائية"، "لكنّها كانت  أكثر ربحاً فيما مضى"، هذا ما قاله التاجر الخمسيني الذي بدأ مهنته قبل خمسةٍ وثلاثين عاماً، وأضاف في حديثه لـ CNN بالعربية: "عصر (البالة) الذهبي كان في ثمانينات القرن الماضي، يومها كانت هذه البضائع الأوربية المصدر تسد  النقص الكبير في حاجة السوريين للملابس، بسبب كون الصناعة المحليّة محدودة في ذلك الوقت، واليوم أيضاً، زاد الإقبال على بضائع السوق، نتيجة الضائقة الاقتصادية، وكثرة المهجرين الذين غادروا بيوتهم من جرّاء الحرب، وتركوا وراءهم كل شيء، بما في ذلك ملابسهم، وباتوا يقصدون (سوق البالة) لتوفير حاجتهم منها، لكنّهم يجدون أسعارها غالية مقارنةً بقدرتهم الشرائية المحدودة، إلا أنّ هذه الأسعار تبقى أرحم من باقي الأسواق -- أبو محمد-تاجر ."

مكان "سوق البالة" تغيّر أيضاً في دمشق،  ففيما مضى  كان يقع بـ"زقاق البرغل" أحد أزقة حي "باب الجابية" قبل أن يتحوّل هذا السوق لبيع "العباءات" و"الإشاربات: الحجابات"، واليوم بدأت تنتشر محلات تعرض الألبسة المستعملة إلى جانب الجديدة منها، وإن بكثافةٍ خجولة، في الأسواق الدمشقية الأخرى، كـ "بوّابة الصالحية"، هكذا قرر "نبيل" تحويل تجارته من بيع الستائر وأقمشة المفروشات، لـ "البالة"، وكشف لـ عن سرّ هذا التحوّل، قائلاً: "شهدت تجارتي حالةً من الكساد، بسبب الحرب، فقليلون جداً من يفكّرون بتجديد عفش منازلهم، أو شراء مستلزمات مفروشات جديدة، وبينما كنت أرغب بشراء بنطال، وجدت ما أريد  عند أحد أصدقائي من تجّار الملابس المستعملة، وبسعرٍ غير قابلٍ للمنافسة، مقارنةً بالبضائع الجديدة،  وأمام دهشتي، عرض عليّ صديقي الشراكة بعرضِ بضائعه في محلي بـ (سوق الصالحية)، فقلت في نفسي لم لا؟، وحدث ذلك بالفعل، وفوجئت بحجم الإقبال على بضاعتي."

لكن الأسعار في محل "نبيل" تفوق بشكلٍ ملحوظ، أسعار الألبسة المستعملة بسوق "البالة" الرئيسي، وكذلك نوعية الزبائن تبدو مختلفة، ويطغى عليها أبناء الطبقة الوسطى، لكنهم يبدون سعيدين باكتشافهم "الأكثر رحمةً" من حيث  السعر، قياساً  بأسعار  البضائع الجديدة. 

وأخيراً، غزا سوق الألبسة المستعملة في سوريا العالم الافتراضي، من خلال  إنشاء عدة مجموعات عبر موقع  "فيسبوك" للترويج لألبسة، أو حاجيّات،  يريد أصحابها بيعها، بسبب عدم حاجتهم إليها، بداعي السفر، أو تحت ضغط الضائقة الاقتصادية، هذا النوع من التجارة بات يلقى إقبالاً متزايداً، كأحد الحلول البديلة التي يبتكرها السوريون يومياً، للتعايش مع ظروفٍ قاسية، تفرضها عليهم الحرب، ويجتهدون لدفع أضرارها.