ريم عبد الحليم تكتب.. "من حقك ألا تكون فقيراً"

اقتصاد
نشر
7 دقائق قراءة
ريم عبد الحليم تكتب.. "من حقك ألا تكون فقيراً"
Credit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم ريم عبدالحليم، باحثة في شؤون مكافحة الفقر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN

ماذا لو أغلقت كافة الأبواب التي يستطيع الأفقر والأضعف توصيل أصواتهم وشكواهم من خلالها؟ ربما السؤال الأكثر مرارة، ماذا لو لم نملك إجابة عن هذا السؤال نفسه؟ كيف نرى المستقبل؟ بل هل نراه من الأساس؟

ليس هدفي من طرح هذه الأسئلة هو اللوم والتوجيه والعتاب، فلا مجال للاستيعاب بالعقل والمنطق في ظل "الهيستريا الحالية" على كافة الأصعدة، ولكنها تساؤلات استوجبها السعي لإيجاد حل ومخرج من تردي أوضاع الأفقر بشكل خاص. ارتأيت جزءاً من الحل رسم صورة أكثر وضوحاً وتوحيد المفاهيم فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وعلاقاتها بالفقر تحديداً.

مدخل الحقوق في تعامله مع قضية الفقر يحمل اختلافاً جوهرياً في نظرته لطبيعة النظام الاقتصادي بشكل عام ولإدارة الإنفاق العام بشكل خاص، فيتناول قضية الفقر في إطار "من حق الإنسان ألا يكون فقيراً من الأساس"؛ وليس فقط "من حق الفقير أن يحصل على كذا وكذا.. ".

الحق، صفة لصيقة بالإنسان لكونه إنسان، فهو غير مطالب بتبرير استحقاقاته؛ وحقوق الإنسان بطبيعتها:

  • متكاملة وليست متنافسة فلا يمكن تصور الحق في التعليم عالي الجودة دون الحق في التعبير عن الرأي لتقييم الخدمة، أو حتى تصور التعارض بين الخدمة الصحية الفعالة وتحسين أجور الأطباء، أو التنافس بين حقوق العامل في التنظيم والتفاوض والأجر العادل وحقه في فرصة العمل ذاتها.. إلخ.
  • شاملة وليست استهدافية أو انتقائية، فتدخل الدولة يكون لضمان استيفائها للجميع وليس لفئة دون الأخرى؛ أي تتدخل الدولة من منطلق يتمثل بتحديد الفئات المستهدفة لأن هذه الفئات لا يمكنها النفاذ إلى حقوقها بما يستدعي تدخلاً إضافياً ببرامج محددة، وليس من منطلق أن هذه الفئات فقط هي من يمكنها النفاذ إليه، على الرغم من خلل شامل في المنظومة، هناك فرق. 
  • مستدامة وليست خيار لحظي قد تتخلى عنه الدولة في وقت ما لأي سبب كان، فهو ليس ملك لها، ولا منحة تمنحها، بل صفة أصيلة من تكوين الانسان لأنه خلِق هكذا؛ وتغييب هذا الحق لأي زمن أو سبب يعني التعدي على انسانيته.
  • تتعدى فكرة السعي نحو تكافؤ الفرص بين ذوي المؤهلات نفسها، لتتساءل عن أسباب افتقاد البعض للمؤهلات والإمكانات من الأساس.
  • ترتبط بالإنسان نفسه كفرد ومن ثم تصاغ مؤشرات قياسها من خلاله هو، وليس من خلال قياسات جامدة حول مدى تحسين الظروف المحيطة به فقط. ففي إطار رسم استراتيجيتها للتنمية لابد وأن تطرح الدولة تساؤلات تأسيسية مختلفة. فعندما تستهدف النمو من أجل توليد فرص العمل، لابد من طرح تساؤل أساسي وهو "هل فرص العمل المتولدة بالفعل تحمي المشتغلين من الفقر؟"، وعندما تتحدث عن انفاق عام على الصحة لابد وأن تجيب المواطن على تساؤل هام وهو "هل نظام الصحة الحالي بالفعل يحمي كل الانسان من خطر الوقوع فريسة لبراثن المرض دون مفر؟"، والتعليم كذلك، "هل التعليم بالفعل يسهم في تحقيق الارتقاء في السلم الاجتماعي ويستفيد منه الفقير مثل الغني؟"، و "هل العائد على التعليم فعلاً عادل للجميع"؛ أم أن هناك أية ظروف أو أسباب تجعل هذه المكونات التي تدخل ضمن الانفاق على البعد الانساني في الدولة أدوات لتكريس للفقر وحمله عبر الأجيال؟

ويبقى تساؤلان هامان، الأول: هل من الممكن أن يكون النظام قمعياً، ومع ذلك يضمن الحقوق الاقتصادية للإنسان وحدها، أي دون حرياته؟ من الممكن في حالة توافر موارد تسمح بتوزيعها بشكل يكفي قاعدة شعبية عريضة، ولكن من المستحيل أن يكون هذا الضمان مستداماً، فاستيفاء الحق يتطلب تقييمه من المستفيدين، والأنظمة التي تغيب عنها قنوات التواصل الفعالة أقصى ما تستطيع تحقيقه هو إتاحة الخدمات العامة وتحقيق النفاذ لها، ولا يمكنها ضمان فعالية هذه الخدمات العامة لتبلغ مرتبة الحصول على الحق كاملاً؛ ولو تراجعت الموارد وتصاعدت الشكاوى يكون البطش حاضراً.

السؤال الثاني، هل من الممكن أن يقوم النظام على عدم العدالة الاقتصادية ومع ذلك يضمن الحقوق الاقتصادية للإنسان؟ إن المنظومات الاقتصادية القائمة على عدم العدالة بطبيعتها تعتبر الجهد البشري هو العنصر الذي يجب أن يبقى رخيصاً، فهناك تنافس بين فكرة بقاء النظام بشبكاته وبين الحقوق بشكلها الكامل والجذري؛ فالحق يعبر عنه في صورة منحة يمنحها النظام؛ فتزيد في مجتمعات وتقل في أخرى حسب توافر الموارد، ودرجة الديمقراطية "النظيفة" وقوة المؤسسات المدافعة عن الحقوق، ودرجة توغل شبكات المصالح في السلطة؛ فهي ورقة في يد السلطة والنافذين فيها من ذوي المصالح، قد تقل المنح حتى تقتصر على تقديم بعض برامج الرفاه الانتقائية أو التعديلات الجزئية، مثل العلاوات الجزئية كبديل عن إصلاح شامل في هيكل الأجور بشكل يضمن مستويات كافية وعادلة للجميع، ومثل برامج التأمين والمعاشات الاستهدافية المحدودة لبعض الطبقات والفئات كبديل عن منظومة حقوقية كاملة، فتخفف من آلام النظام وتبقيه، ولكن بشكل يحول حق الانسان من حق أصيل، لمنحة ثم إلى مجرد رشوة أو أداة للتفتيت والتنافس على موارد "محدودة"؛ فلو تراجع النمو يصبح لزاماً الاستغناء "السهل" حتى عن برامج الرعاية الانتقائية، فتصبح مجرد صور غير مفعلة.

فصمود أي منظومة اقتصادية غير عادلة أمام بعض المطالب المفتتة الضيقة بتحسين جودة الحياة -على الرغم من أهمية هذه المطالب- أسهل كثيراً من صمودها أمام رؤية  لمنظومة حقوق متكاملة تتطلب تغيرات جذرية في طبيعة إدارة الدولة.

ربما تستدعى هذه الصورة تساؤلات جادة في الحالة المصرية، عن أسباب التهديد بغلق مؤسسات المجتمع المدني التي اشتغلت في المجال الحقوقي، فلابد أن تساءل الدولة عن سبب رغبتها في التخلص من هذه المؤسسات، على الرغم من وجود دستور اعترف بمجموعة من الحقوق وإن لم يطبق أو حتى يراعى أي منها "بعد" .

على أي حال، بعيداً عن المؤسسات والدستور، أيها المواطن إن لك حقوقاً لأنك إنسان، ودون أي منها فسوف تكون فقير أو عرضة لنوع من أنواع الفقر.. ومن حقك ألا تكون فقيراً.. من الأساس!