هذا المقال بقلم عمر الشنيطي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
إدارة الاقتصاد مهمة صعبة حيث يجب إرضاء أصحاب المصالح المختلفين من مستثمرين وموظفين وأصحاب الدخول المحدودة، كما يجب الوصول لوضع اقتصادي متوازن من حيث نسب النمو والبطالة والتضخم وتوزيع الدخل. وحينما تمر بلد باضطرابات كالتي حدثت في مصر في السنوات الأربع الأخيرة، فإن مهمة إدارة الاقتصاد تصبح أمراً شديد التعقيد مع وجود كمية كبيرة من المشاكل المتشابكة مع بعضها البعض حيث يصبح حل أحد المشاكل سببا في تفاقم مشاكل أخرى ويأتي إرضاء مجموعة من أصحاب المصالح على حساب مجموعات أخرى. وتتجلي تلك الصورة الحرجة في التعامل مع المستثمرين والفقراء في وقت ضاقت فيه الخيارات أمام صانع القرار.
لكن في البداية، هل يجب أن يختار صانع القرار بين المستثمرين والفقراء كأولوية؟
تراجع الاقتصاد نتيجة الاضطرابات السياسية حيث شهد معدلات نمو تقارب 2٪ لأربعة سنوات، ووصل عجز الموازنة إلى 12.8٪ في العام المالي الأخير على الرغم من المساعدات الخليجية السخية وتزامن مع ذلك تراجع للسياحة والاستثمارات الأجنبية مما ضغط على سعر صرف الجنيه. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع معدلات البطالة لتتخطى 13٪ ومعدلات الفقر لتتخطى 26٪ بينما يشهد التضخم موجات ارتفاع من وقت لآخر. وفي ظل هذا الوضع المركب، على صانع القرار أن يحدد نقطة البداية.
لتشجيع المستثمرين، على صانع القرار أن ينضبط مالياً بالعمل على خفض عجز الموازنة والسيطرة على الدين الحكومي لتحسين التصنيف الإئتماني كما أن عليه تحرير سعر صرف الجنيه. وهذه الإجراءات ستشجع المستثمرين بالتأكيد لكنها تحمل الكثير من الأخبار السيئة للفقراء والذين سيواجهون زيادة في البطالة وارتفاعا في الأسعار على المدى القصير، لكن الأمل في أن يؤدي هذا التوجه لخلق فرص عمل تحسن الوضع على المدى المتوسط والبعيد. أما لو ركز صانع القرار على الفقراء، فذلك سيتطلب زيادة في الإنفاق الحكومي لإيجاد فرص عمل وزيادة المميزات الاجتماعية من أشكال الدعم المختلفة لإنتشال البعض من دائرة الفقر، لكن ذلك سيأتي على حساب زيادة عجز الموازنة وبالتالي التوسع في الدين الحكومي وهي ما تمثل أخبار سيئة للمستثمرين.
إذا كانت تلك هي الخيارات، فماذا كان توجه الحكومة؟
بعد تراجع الدعم الخليجي وعدم تقديم الدعم إلا في صورة استثمارات، أصبح على الحكومة الاعتماد على نفسها وضبط نفقاتها، لذلك انتهجت الحكومة برنامجا اقتصاديا مطلع الصيف الماضي يعمل على تخفيض عجز الموازنة بتخفيض دعم الطاقة والتي أوضحت العديد من الدراسات تسرب جزءا كبيرا منه. وكان لانخفاض أسعار البترول غير المتوقع دورا في السيطرة على عجز الموازنة في العام الحالي ليصل إلى 10-11٪. كما قام البنك المركزي مؤخرا بتخفيض قيمة الجنيه في إشارة إيجابية للمستثمرين قبل المؤتمر الاقتصادي.
لكن هذه الإجراءات لها تكلفة باهظة على الفقراء الذين واجهوا زيادة كبيرة في أسعار السلع والخدمات الأساسية الصيف الماضي بعد رفع أسعار الطاقة ومن المتوقع أن يواجهوا موجات أخرى على المدى القصير سواء من رفع أسعار الطاقة مجددا أو من ارتفاع الدولار. وقد تنبهت الحكومة لذلك فعملت على زيادة المستفيدين من التحويلات النقدية وكذلك تحسين بعض المواد التموينية لكن على الأرجح الأثر السلبي لارتفاع الأسعار أكبر من إجراءات الحكومة الاجتماعية وهو ما يعني زيادة في تكلفة المعيشة ومعدلات الفقر.
هل يستطيع الفقراء تحمل ذلك؟
على الرغم من تدهور وضع الفقراء في السنوات الأربعة الاخيرة وزيادته مع توجه الحكومة التقشفي إلا أنه حتى الآن يبدو أن الفقراء قابلين بالوضع ولا يوجد مظاهر اعتراض صارخة. وهذه بالتأكيد أخبار جيدة للحكومة. لكن مع تراجع الدعم الخليجي وحاجة الحكومة للاستمرار في برنامجها التقشفي، فإن وضع الفقراء سيزداد سوءاً وبؤساً بمرور الوقت. وإذا تأخرت الاستثمارت الأجنبية في التدفق مقارنة بالتوقعات الرسمية المتفائلة، فإن الوضع الاقتصادي سيصبح شديد الحرج وأثر ذلك على الفقراء قد يصعب احتماله.
ليكن الله في عون الفقراء. و لكن هل يؤثر ذلك على المستثمرين؟
ظاهرياً المستثمرين في معزل عن ذلك، طالما الحكومة متعهدة بتذليل الصعاب للمستثمرين خاصة الأجانب، قد يبدو أن المستثمرين لا يجب أن يقلقوا من تدهور وضع الفقراء. لكن السنوات الأربعة الأخيرة أثبتت أن الاستقرار السياسي والاجتماعي عاملين مهمين لاستدامة المشروعات الاقتصادية. وقد وعى المستثمرون ذلك الدرس جيدا. المستثمرون لا يأبهون لوجود ديمقراطية في حد ذاتها لكنهم يهتمون بوجود استقرار سياسي وأمني يجنب البلد ثورة جديدة. المستثمرون أيضا لا يأبهون لوجود عدالة اجتماعية لكنهم يهتمون بوجود استقرار اجتماعي يجنب البلد ثورة جياع أو ما شابه. و من ناحية أخرى يركز المستثمرون على وجود قوة شرائية كبيرة في السوق المصري بفضل عدد السكان الكبير وبالتأكيد تدهور الوضع الاجتماعي سيؤثر سلباًعلى تلك القوة الشرائية وبالتالي سيؤثر على المشروعات المختلفة والمستثمرين عاجلا أم آجلا.
إذا ما العمل؟
الحل في برنامج اقتصادي يضبط المالية العامة كما تريد الحكومة لكن بشكل أكثر تدرجا حتى لا يؤثر سلبا بشكل غير محتمل على الفقراء في المجتمع. وعلى التوازي يجب على الحكومة العمل على توسيع شبكة الضمان الاجتماعي بزيادة المستفيدين من التحويلات النقدية وزيادة هذه التحويلات بشكل يعوض تلك الفئات عن الزيادة المضطربة في الأسعار. كما يجب إدراك أن المجتمع المدني له دور يجب أن يفسح له المجال للقيام به حتى يستطيع استكمال تقديم الخدمات للفقراء والمحتاجين.
الخلاصة أن التركيز على المستثمرين على حساب الفقراء بتحرير الاقتصاد وتقليص عجز الموازنة له آثاراً كبيرة على الفقراء الذين ساءت أحوالهم بشدة في الأعوام الأربعة الأخيرة. وعلى الرغم من حرص الحكومة على تذليل كل العقبات للمستثمرين وخاصة الأجانب منهم، فإن تدهور وضع الفقراء سيكون له أثراً سلبياً على المستثمرين الذين يرغبون في الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني وكذلك الاجتماعي للاستثمار. إن الوضع صعب والخيارات قليلة أمام صانع القرار ولذلك فالتدرج في التطبيق والنظر للجانب الاجتماعي بعين الإعتبار قد يكون توجها حكيما.