هذا المقال بقلم الدكتور لؤي شبانة، مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان في المنطقة العربية، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
فاجأني إبني في سنوات حياته الأولى بسؤاله عن عيد ميلاد السيد المسيح وعن سبب اعتبار الميلاد معجزة. أربكني السؤال في وقتها إذ أنني رأيت في الحديث ضرورة للخوض في المسائل الدينية والمسائل الثقافية والجنسية معا. فأنا كأب مسلم من فلسطين، أؤمن بقصة ميلاد السيد المسيح، لا سيما وأنني أتشارك معه، أي مع سيدنا عيسى عليه السلام، مكان المنشأ: فلسطين. بدأت بسرد القصة كما تعلمتها أنا في صغري، فحكيت له عن السيدة مريم العذراء وعن إنجابها لطفل في المغارة. "شو يعني عذراء؟" سألني إبني. أجبته دون تفكير "يعني غير متزوجة". فما كان من الصغير إلا أن سأل: يعني لو لم تكن متزوجة لا تستطيع أن تكون أما؟
أعترف أنه لم يحضرني جوابا مقنعا وفي الوقت ذاته يغطي كل تساؤلات طفل لم تصهره بعد الاعتبارات الدينية والاجتماعية والثقافية. ربما لو لم يكن إبني لاختلف الوضع، إذ كنت سأقف على مسافة كافية من الولد وأشرح له بشكل علمي عن أسس الحياة. لكنه كان إبني، أي مشروع أردته ناجحا وملما بالحلال والحرام والأخلاقي وغير الأخلاقي كما ينص عليه المجتمع من حولي.
قد يهمك أيضا: هكذا تُحسّن التمارين الرياضية الحياة الجنسية
أثارت أسئلة إبني سؤالا لطالما تم طرحه في الأوساط التعليمية والأكاديمية في العالم، وهو عن أنسب طريقة وأفضل عمر لتقديم الثقافة الجنسية للأطفال والمراهقين وأنسب المنصات لذلك. فأذكر أنني حين كنت مراهقا مررنا مرور الكرام وبشكل خجول جداً عن موضوع التكاثر والجهاز التناسلي الذكري والانثوي حين أخبرنا المدرس بأن نقرأ ذلك الموضوع ذاتياً وهو غير مدرج في الامتحان المدرسي على أية حال. أظن أن معظم المدرسين أيضا يمرون سريعا على موضوع في غاية الأهمية ويحتل حيزاً مهما في أذهان المراهقين والمراهقات.
مجتمعيا، ألاحظ أن الكثير من الدول والمؤسسات النافذة في المنطقة العربية تختار تجاهل الموضوع، لا سيما في المجتمعات المحافظة أو التي لا يتم فيها مناقشة المواضيع المتعلقة بالجنس بشكل علمي وعلني. في هذه المجتمعات، يتم تغطية المواضيع الحساسة بعباءة الـ "عيب". طبعا لا يخفى على أحد أن العباءة سرعان ما يتم خلعها حين يجتمع الشباب فيما بينهم فيطلقون النكات والقصص التي تدور تحديداً حول المواضيع الحساسة. كما تعج صفحات التواصل الإجتماعي بالإيحاءات والكلام المباشر عن المواضيع الحساسة.
كذلك.. ما الذي يتوجب فعله إن دخل طفلك الغرفة خلال ممارسة الجنس؟
كيف إذا نبرر هذا التناقض؟ ففي الوقت الذي تتخذ بعض الحكومات والمؤسسات الدينية موقفا محافظا تجاه الحديث العام في قضايا التثقيف الجنسي للمراهقين عبر الوسائل التعليمية الرسمية، ضمن المناهج المدرسية مثلا وتحت إشراف مدرسين مختصين، نجد أن العالم العربي يشهد من أعلى نسب زيارة الفئة الشبابية (عمريا) للمواقع الاباحية في العالم. فيصبح السؤال: هل أفضى سكوتنا عن الموضوع إلى معالجته؟ وقد أثبتت الأبحاث التي درست عادات مستخدمي الانترنت أن السياسات المحافظة في الأجندة الاجتماعية وتقييد الحريات بما في ذلك منع الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة خوفا من تطورها إلى تحديات اجتماعية ومجتمعية غالبا ما أتى بمردود عكسي على الأفراد والمجتمعات.
إن تجاهل أي ظاهرة لا يمحوها ولا يجعلها تختفي.عدم مناقشة القضايا بدواعي الحساسية الاجتماعية أو السياسية لا يعالجها ولا يقلل من آثارها. أنا أعترف بصعوبة طرح بعض المواضيع للنقاش العام في ظل تعقيد المنطقة العربية سياسياً ودينياً ومذهبياً واجتماعياً، فهذه كلها عوامل تتخذ من المواضيع الحساسة عموما والجنسية خصوصا مادة للسيطرة: سيطرة الأب على عائلته (البنات بالأخص)، سيطرة زعيم القبيلة على أفرادها، سيطرة رجال الدين على مجتمعاتهم، وغيرهم. في ذات الوقت، يخاف الكثيرون من تزعزع ما يرونه إطارا اجتماعيا أو دينيا أو ثقافيا مناسبا لهم فيهرعون بالتصدي لفتح باب النقاشات المعقدة.
و.. تسع فوائد قد لا تعلمها عن ممارسة الجنس
ما الحل إذا لموازنة حاجة المراهقين للمعلومات العملية وبين حاجة الكثيرين من ذويهم للحفاظ على المعايير التي قرروا أن يلتزموا بها؟
1- يجب الاعتراف بعدم تناقض المسألتين. أي أن إعطاء المعلومات المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية لا تعد تشجيعا على الممارسة بقدر ما هي تشجيع على فهم نتائج الممارسة على الصحة وعلى الأجسام وعلى المجتمع.
2- يجب وضع حد لظاهرة النفاق الاجتماعي والتعامل مع ثقافة العيب المهيمنة على العلاقات في الفضاء العام، فكثيرا ما يتم اتباع قاعدة غير مكتوبة مفادها أن ما لم يعلم به أحد من أفعال فهو لا يضر ضررا كبيراً، وأن الضرر هو في الفضيحة أكثر مما هو بالفعل ذاته. إن هذه الثقافة تخلق عالماً سفلياً يشكل ملاذا لكل ما لا يسمح به في العالم الرسمي الذي يمكن التأثير عليه بشكل إيجابي من قبل الحكومات والمؤسسات ذات الصلة.
3- الأهم هو أن يتم إتاحة الفرصة لمناقشة الأمور التي تعد حساسة بمنتهى الانفتاح، وبذلك يفهم المراهقون والشباب خياراتهم ويتعلمون ما من شأنه أن يحافظ على صحتهم ونموهم. يتطلب ذلك فهما دقيقا لاحتياجات الشباب وليس ما يعتقد التربيون أو رجال الدين أو المتنفذون أنها المعلومات والمهارات المسموح للمراهقين بمعرفتها.
إن استمرت الحكومات والسلطات الدينية في الوطن العربي في رفضها أو تحفظها على الخوض العلني في قضايا تعتبر جدلية كحقوق المرأة لا سيما الحقوق الانجابية وقضايا التثقيف الجنسي للمراهقين والمراهقات ومناقشة جذور العنف المبني على النوع الاجتماعي، فسوف تستمر المجتمعات بحفر أماكن موازية للنقاش وللممارسة، وذلك ليس من سمات المجتمعات الصحية.
اليوم، وبعد سنوات طويلة أمضيتها في صندوق الأمم المتحدة للسكان، وهو المؤسسة المعنية بالصحة الإنجابية، أتمنى لو أعود بالسنوات إلى يوم سألني ابني فيه عن معجزة ولادة السيد المسيح، فأنا الآن متيقن من استعداده، رغم صغر سنه وقتها، لفهم المعلومة حين تقدم بشكل موضوعي وعلمي.