هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
متى تنتهي "اللطميات" السياسية في الشرق الأوسط هذا الشرق الغارق إلى حد الثمالة بالنصوص الدينية والوعظ والإرشاد السياسي و"المنافستو" الحزبي والفانتازيا السوريالية الإعلامية؟ متى نصدق القارئ والمستمع والمشاهد القول ونكون أمناء على الكلمة فنسمي الأمور بمسمياتها؟
لم نقرأ المشهد العالمي ولا الإقليمي ولا المحلي جيدا في نهايات القرن التاسع عشر لنفهم أن اليهودية كديانة ستعبر عن نفسها قوميا، ولم ندرس من باب رفض الآخر الديانة اليهودية والتاريخ والتراث اليهوديين لنفهم أن اليهودية ديانة قومية بالضرورة. نعم هي الديانة الوحيدة في الدنيا التي تنطلق بارتباط الإيمان بالقبيلة وبالشعب وبالأرض.
بصرف النظر عن مدارسنا الدينية، جميعنا يعلم أن المسيحية والإسلام كنصوص دينية وكشهادات تاريخية تعاملت مع اليهود "بني إسرائيل" من منطلق أنهم شعب الله المختار باعتقادهم وأنهم منحوا أرضا موعودة بصفتهم شعب الله المختار. والحق دون تسييس أو جور على الحقائق التاريخية والدينية والعلمية، يشير بوضوح إلى أن نسبة كبيرة من المسيحيين في العالم يشاركون اليهود في فهمهم للنص التاريخي في العهد القديم من الكتاب المقدس لكنهم قد يختلفون على مآل الأمور في نهاية المطاف حيث شعب الله – من وجهة نظر مسيحية – هم كل من آمنوا بالسيد المسيح فاديا ومخلصا. فالمسيحية غير قومية كديانة لأن "أبناء الله" هم البشر كافة والداخلون في ملكوت الله هم من كل الأعراق ما دامت قد جمعتهم معمودية ولدوا من خلالها ميلادا جديدا لا دنس ولا موت فيه بمعنى أن من يرثون الملكوت هم من آمنوا ببشارة المسيح وخلاصه. في المقابل، فإن المسلمين أيضا يؤمنون في قرآنهم المليء بالآيات عن بني إسرائيل بأن الناس كافة سواسية إما "إخوة لك في الدين أو شركاء لك في الإنسانية" وأن "الأرض يرثها عبادي الصالحون".
قد يهمك أيضا: قانون "الدولة القومية" في إسرائيل.. ما أبرز بنوده ورد فعل نتنياهو؟
إن قرار الكنيست الأخير ومن قبل قرار الحكومة الإسرائيلية وما سبقه من عمليات تهيئة للرأي العام العالمي والمحلي، لم يأت من فراغ ولا على حين غرة. القرار بموضوعية لا يعدو عن كونه تسمية الأمور بمسمياتها وإقرار لأمر واقع منذ زمن بعيد أقربه منذ قيام إسرائيل كدولة يعترف بها المجتمع الدولي ودول عربية وإسلامية كثيرة في السر والعلن.
المسألة الحقيقية هي التوقيت. التوقيت لافت من حيث تعزيزه بشكل أو بآخر المكاسب التي تحققت بإعلان القدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة إسرائيل. وكما في ذلك القرار، فإن إسرائيل تؤكد أن يهودية الدولة لا تعني بأي حال من الأحوال المس بحقوق وواجبات مواطني الدولة كافة بصرف النظر عن ديانتهم ولغتهم. هكذا أكد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو أمام شاشات العالم والأهم أمام الكنيست الذي اتخذ القرار بأغلبية ليست بالوازنة في مؤشر على مخاوف دعاة مدنية الدولة وعلمانيتها في إسرائيل.
بطبيعة الحال، لم يخرج قرارا نقل مقر السفارة الأميركية إلى القدس وقرار الكنيست بيهودية الدولة العبرية إسرائيل، لم يخرجا عن سياق "صفقة القرن" سواء أكان ذلك عمدا أم محض صدفة عجائبية تروق لبعض الإنجيليين المؤمنين بحرفية علامات آخر الزمان التي تسبق عودة السيد المسيح ليقيم ملكوت السماء على الأرض في دولة عالمية كونية عاصمتها القدس، القدس الجديدة. تفسيرات وإن تناقضت مع الروايات اليهودية والإسلامية التراثية لعلامات آخر الزمان، تصب جميعها في محصلة واحدة، التحقيق الذاتي لخلاص لا يحققه إلا الفناء. هنا المقتل في كل ما يجري من حولنا من أحداث مع تصاعد اليمين الديني والقومي في عالم بات أكثر قربا من الصدام المحتوم.
كذلك.. ماذا قالت الأمم المتحدة عن قانون "الدولة القومية" في إسرائيل؟
كيف نتعامل مع الحدث؟ هناك طريقان لا ثالث لهما، إما أن يتمسك كل طرف بنصوصه ورواياته المقدسة الجامدة أو يسمو بها فيفهم الروح خلف الحروف ويؤمن أن الخالق المبدع المحب الرحمن الرحيم لا يريد دمارا ولا فناء بل خلاصا وإعمارا ونعيما لنا جميعا، نحن خلقه "فكلنا عيال الله". الكارثة أن زعماءنا ولأسباب متباينة لم يصدقوا القول معنا، تارة من منطلق عدم أهلية عامة الناس بعد لفهم المقبل من الأمور وتارة أخرى من منطلق السعي إلى الانفراد بالقرار واحتكار مغانمه.
أقر أنا كاتب هذه السطور أن فهمي لثوابت كثيرة قد تغيّر في بعض الحالات بنسبة مائة بالمائة وبثلاثمئة وستين درجة بعد الدراسة والعمل في عالم آخر لا يملك "تابوهات" الشرق الأوسط ولا آلهته وأنصاف آلهته.
علينا إن أردنا الصدق مع من سنرحل ونترك لهم الأرض وما عليها، علينا أن نتقي الله فيما هو قادم، فإن كنا غير مسؤولين أو راضين عما هو قائم، فمن الأجدى أن نتخذ موقفا صحيا وصحيحا من الأحداث حولنا، فتلك مرحلة حبلى بالأحداث الكبيرة ذات الدلالات النوعية تاريخيا.
بداية العمل والنهج الصحيح في تصوري، هو تسمية الأمور بمسمياتها وكفانا حالة أشبه ما تكون بالهذيان في إنكار الحقيقة. في علم النفس يعتبر الأمر ضربا من الهستيريا. ومن منظور علم الاجتماع، على قادة المجتمع من سياسيين ومفكرين وإعلاميين ورجال دين وتربويين، أن يكفوا عن الإسهام في التضليل أو التخدير أو التهييج فجميعها آفات فكرية وسلوكية وضعتنا "كأمة" في الحال الذي نحن فيه بين أمم المعمورة.
المتطلب الثاني للنهوض والتقدم للانخراط في صناعة المستقبل، هو الكف عن ازدواجية المعايير والنفاق والخداع. نعم لنكن صريحين مع الذات في مكاشفة كتلك التي يقوم بها الطبيب مع مريضه المصر على الانتحار بممارساته الصحية البائسة.
فكل دولة ترفض علمانية الدولة أو مدنية الدولة لا تملك مقومات نقد القرار أمام المجتمع الدولي ولا أمام مواطنيها أيضا.
كيف بالله عليكم سيستمع لعبارات التنديد والوعيد بقرار يهودية الدولة إن كان من أولئك الذين يقيمون صلاتهم بالخفاء لأن القائمين على السلطة في بلاده لا يقيمون وزنا لا لعيش ولا لتعايش مشترك. كيف سينظر المواطن المقموع في حقوقه الدينية والمدنية والسياسية كمواطن من الدرجة الثانية في بلاد كانت تاريخيا ولعشرات القرون غير مسلمة وغير عربية. كيف لضحايا "الربيع العربي" المشؤوم المذموم من غير العرب وغير المسلمين أن يفهموا أو يتعاطفوا مع رافضي القرار بحجة دوافعه العنصرية.
رب ضارة نافعة، فقرار القدس وقرار يهودية الدولة وما هو آت لا ريب من قرارات فيما يخص "صفقة القرن"، تضعنا جميعا أمام ضمائرنا فيما هو أشبه بلحظة الحقيقة. ماذا نريد لأحفادنا؟ طوائف وقوميات تتناحر على مذابح آلهتها أم مواطنية عالمية في الحقوق والواجبات تحفظ خصوصيات وتراث الجميع بكل المحبة والاحترام والتقدير. وللمؤمنين بالله أقول، ما كان عبثا أن يجمع الله رسالاته في بقعة واحدة. لو أراد الجفاء لباعد بينها ونثرها على القارات وربما المجرات كافة، لعله أراد سبحانه أن يجمعنا تحت جناحيه بحنو لا جفاء بعده ولا فناء فيه.