هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
كأنه قدر الشرق الأوسط أن يظل مسكونا بهاجس الخوف من المجهول استنادا إلى وساوس الماضي القهرية. ولعلها هالة النصوص المقدسة التي أوقعت مستخدمي الكلمة من سياسيين وإعلاميين في حبائل المصطلحات الجامدة والأحكام القطعية. وبين هذا وذاك، ما زلنا كشعوب وعلى مدى نحو قرن أسرى تلك المصطلحات والأحكام لكن من سوء حظنا وجني أيدينا ما زلنا نهوي وبتسارع على منحدر تردي الأمر الواقع. ما زلنا نتخبط بين الظاهرة الصوتية والحقيقة الموضوعية التي لا تخضع للأماني مهما سمت. ما زلنا نخادع أنفسنا بوعي وبغير وعي، بالكم الهائل من التناقضات الفردية والجمعية التي أفرزها الخلل المتنامي بين الحقيقة والخيال، بين ما نريد وبين ما نملك، بين صورتنا وحجمنا الحقيقي وبين صورة وحجم الآخر سواء أكان صديقا أم عدوا.
وبعد، إن كان قادة الدول المعنية مباشرة بصفقة القرن إما غير مطلعين عليها أو متكتمين عليها، فكيف لمراقب أو باحث حشد الرأي العام لمعارضتها قبل خروجها إلى العلن؟ صحيح أن ثمة تسريبات مدروسة ومقدمات معلنة من شأنها تشكيل صورة تقديرية لبنودها الرئيسة، لكن من غير اللائق تحشيد وشحن الناس للاستسلام لثقافة اليأس والوهم التي ستؤدي حتما إلى ما يحمد عقباه.
ولعلها من محاسن الصدف، إخفاق رئيس وزراء إسرائيل في تشكيل حكومة وقرار الكنيست حل نفسه والدعوة إلى انتخابات بعد 3 أشهر. مدة كافية لمراجعة النفس، مراجعة صادقة تبدأ بطرح الأسئلة الحقيقية حول مفاهيم وأولويات آن الأوان لطرحها بصدق بين مكونات مجتمعات ودول القرن الواحد والعشرين. فمن المخجل اجترار كوارث الماضي في التعبير عن الرفض بالمقاطعة والإنكار. فعالم اليوم لا ينتظر أحدا، ولا يخضع لمنطق البلاغة ولا الحق ولا الخير ولا المنطق، تلك مفاهيم نبيلة جليلة لها رب يحميها لكننا جميعا أمام واقع تعبر عنه الأرقام المجردة والحقائق الموضوعية.
ولغايات النقاش، أوجه كلامي لمقاطعي ورشة المنامة لا لرافضي صفقة القرن. لست في موقف الخوض فيما لا أعرف تفاصيله، لكني أسمح لنفسي بالحث من موقعي كباحث وكصحافي على رفض منطق المقاطعة والانكفاء لأنه لا ينم إلا عن سوء تقدير في نظري لأهمية المشاركة من باب الاطلاع والنظر عن قرب فيما ستطرحه الورشة من مشاريع "الازدهار نحو السلام".
أقر مسبقا بحق المشككين القائلين بأن السلام الاقتصادي الذي بشّر به رئيس إسرائيل الراحل شمعون بيريز والوعود التي سبقت معاهدتي السلام المصرية والأردنية مع إسرائيل جميعها ذهبت أدراج الرياح، ولذلك أسباب موضوعية لا "تآمرية." لكن المنطق أيضا وبالقياس يذكرنا بشعارات أولئك الذين دعوا إلى خيار القوة ورفض الحلول السياسية للصراع وبخاصة القرارات التالية ذات الدلالة التاريخية: قرار التقسيم، قرار شن حرب حزيران وبخاصة من الجانب الأردني الذي استجاب عمليا حينها لسوء تقدير الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر للموقف، قرار حرب أكتوبر، قرار غزو الكويت، قرار تشكيل التحالف الدولي لتحرير الكويت، قرار إسقاط صدام، قرار قمة الرباط (الاعتراف بمنظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني)، قرار فك الارتباط القانوني والإداري بين ضفتي الأردن، قرار أوسلو (من وراء ظهر الجميع بمن فيهم قادة فصائل فلسطينية)، قرار "تحرير القدس" عبر بوابات الأردن ولبنان وسورية واليمن.
لا أرى منصفا يستطيع تبرير معظم إن لم يكن جميع تلك القرارات الانفعالية أو الكارثية، فالأمور تقاس بنتائجها. وعليه، فعلى الداعين إلى مقاطعة ورشة البحرين طرح البديل وهو ليس أقل من الكف عن خداع النفس وتضليل الآخر. لم تكن الشجاعة تنقص إمبراطور اليابان للإقرار بالهزيمة بعد قنبلتي هيروشيما ونكازاكي. وبالتأكيد كان من المذل في ظل ثقافة الساموراي أن يوقع الإمبراطور بنفسه قرار الهزيمة والاستسلام. لكنه وشعبه من قبله تمكن من إعادة خلق اليابان حتى أصبحت شمسها بحق لا تغيب عن العالم بأسره بالقوة الاقتصادية والأخلاقية. أتمنى ألا يساء فهم طرحي على أنه دعوة للاستسلام أو للتراجع عن الحقوق. لكن ما أتمناه على قادة المجتمع والرأي أكثر من المسؤولين، أن يتعاملوا بصدق وأمانة مع الحقائق. كفى تضييعا للفرص ما دام التاريخ المعاصر يشير إلى المطالبة بما تم رفضه قبل عقود! كفانا بحثا عن سراب وأقدامنا في رمال متحركة. قد يكون طوق النجاة في تحريك المياه الراكدة حتى نصل جميعا إلى شاطئ السلام، نعم السلام عبر الازدهار..