هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
إن أخذنا بالمعلن فقط وبحسن ظن، فإن صفقة القرن تهدف إلى إحلال السلام عبر الازدهار بمعنى تعبيد طريق السلام بمشاريع مجدية يلمس آثارها الناس على نحو عاجل ومباشر، فيتم إحراز تقدم تراكمي على الصعيد الاجتماعي-الاقتصادي بما يفضي إلى ذهنية جانحة إلى السلام أو أقله قابلة بالتفاوض على كل شيء ثبت أنه خلافي وشكّل عقبة بوجه السلام، بصرف النظر عن مواقف الطرفين العربي والإسرائيلي من تلك العقبات.
في المقابل فإن رفض صفقة القرن أو تعطيلها بصدق أو بتمنّع، له ثمن في غاية الخطورة أراه -لا قدّر الله- محكوم بالسقوط في هاوية التوتر الاقتصادي-الاجتماعي الذي لا تخفى بوادره المقلقة على عاقل ناطق صادق.
على سبيل الإيجاز أكتفي بالإشارة إلى نقطة واحدة تضمنها حديث جاريد كوشنير كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره على المنصة التي اعتلاها وسط المؤتمرين في المنامة على اختلاف درجات تمثيلهم لحكوماتهم أو القطاع الخاص الباحث عن اقتناص فرص استثمارية يسيل لها اللعاب. كوشنير تحدث عن الحوكمة الراشدة التي تحسن توظيف أموال صفقة القرن سواء أكانت قروضا أو هبات.
أما وقد انتهت قمم مكة المكرمة من قبل ببياناتها الخليجية والعربية والإسلامية دون انسياب أموال باتجاه الأكثر تضررا من رفض صفقة القرن وهم الفلسطينيون والأردنيون ومن بعدهم اللبنانيين والسوريين والمصريين بصفتهم دول الطوق سابقا، فإن غياب تلك الأموال مع شحّها وانقطاعها أوروبيا وأميركيا وأمميا -وتلك مسألة وقت- ينذر بمزيد من الضغوط على مصادر تمويل الخزينة للسلطة الفلسطينية والدولة الأردنية.
قديما قبل عصور الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي، كان مقص الرقيب يحظر نشر الجرائم التي تهز الرأي العام لعدم تعكير الصفو الاجتماعي العام، لما في ذلك من تأثير تبادلي تراكمي على المخرجات الأمنية والسياسية والاقتصادية. لكننا في عصر انفلت فيه عقال الرقابة الحكومية والانضباط الذاتي، فبات الناس بمن فيهم متقاعدون أمنيون لا يترددون في نشر وإعادة نشر ما ينذر بوقوع المزيد من حوادث التوتر الاقتصادي والاجتماعي. نتحدث هنا بألم وتكتم إلى حد كبير عن جرائم الإقصاء والعنف الفكري واللفظي والمادي الذي وصل في حالات عدة إلى موت ابن أو أخت أو زوجة أو أم ضربا على يد من كان من المفترض أن يتولى رعايتهم وحمايتهم من أهل البيت قبل ذوي القربى والسابع جار!
أكسر حلقة الحزن والقلق هذه بالهروب إلى السينما المصرية إحدى الروافد الأساسية في صناعة الوعي العربي لا المصري وحده. يحضرني خلال متابعة بعض الحواريات الصاخبة حول صفقة القرن أحد أبرز أفلام النجم الكبير عادل إمام "الزعيم". الفيلم حمل اسم "الفنكوش" وهو كما يعلم عشاق الزعيم اسم مبتكر لا معنى له اضطر لاختلاقه هروبا من مأزق الاستحقاق في عالم الدعاية والإعلان. الزعيم صدّق كذبته وبدأ بحملة ترويج ضخمة لذلك المنتج الغامض أو الوهمي بالأصح. والطامة الكبرى أن المستهلك المتعطش لكل جديد على أمل إشباع حاجاته أو رغباته بات يطالب بإلحاح بالفنكوش!
الخلاصة، إن الوضع لا يحتمل لا فنكوش ولا زعمائه من كلا الطرفين العارض والرافض لصفقة القرن. هناك مشاكل حقيقية جذرية تراكمية آن الأوان لمواجهتها قبل الحديث عن القضايا الكبرى. الأمن والسلام يبدآن بالعقل والقلب واللسان، يبدآن بالبيت والمدرسة قبل الشركة والوزارة. "فاقد الشيء لا يعطيه" مقولة رحم الله قائلها والعامل بها.