هذا المقال بقلم د. عبدالخالق عبدالله، أكاديمي وأستاذ العلوم السياسية من الإمارات، والآراء الواردة أدناه، تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة رأي شبكة CNN.
لم تتوقع حكومة رئيس وزراء لبنان سعد الحريري أن فرض رسم طفيف على خدمات "واتساب" سيفجر غضب الشباب اللبناني وسيتحول إلى القشة التي حركت الاستياء المكبوت والمتراكم من تدهور الوضع المعيشي والفساد المالي واختناق أفق الإصلاح السياسي، ومن بطالة تزيد على 40% بين الشباب اللبناني المخنوق الذي اندفع بعفوية إلى الشارع في مسيرات عارمة وشاملة لكل المدن والمناطق اللبنانية تطالب بإسقاط النظام وتدعو للثورة ضد طبقته السياسية. ثورة الشارع اللبناني مستمرة والبعض يحلو له أن يسمها بأول ثورة "واتساب" في التاريخ. فسببها ضريبة غير مقبولة على خدمات "واتساب" والحراك بدأ برسالة نصية تم تداولها عبر التطبيق ومعظم التجمعات تتم عبر مجموعات برزت على "واتساب."
بدأت التظاهرات ليلة الخميس بعد ساعات من إعلان المتحدث بإسم الحكومة اللبنانية عن مجموعة من القرارات من بينها قرار فرض رسم بقيمة 300 ليرة لبنانية (20 سنتاً أمريكيا فقط) على كافة خدمات وتطبيقات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي من بينها خدمة "واتساب". ورغم أن الحكومة تراجعت سريعا عن قرارها، إلا أن القرار فعل فعلته وحرّك ما في النفوس من غضب واستياء عميق عمره أكثر من 20 سنة، كانت الأوضاع المعيشية والمالية والسياسية تتجه خلالها من سيئ إلى أسوأ دون وجود أي أمل أمام الشعب في مستقبل واعد. عندما طفح الكيل، أخذ الشارع اللبناني المبادرة بزخم وقوة للضغط على نخبة سياسية حاكمة وفاسدة لا تعرف أي حد وسقف للفساد.
اندلعت "ثورة الواتساب" خلال الساعة الأولى من وصولي إلى لبنان في أول زيارة إلى بيروت، بعد قرار الإمارات رفع منع السفر كبادرة حسن نية تجاه لبنان، الذي أصبح على وشك الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي. كانت بيروت هادئة ومطمئنة خلال الصباح، وكان لبنان منشغلاً بإطفاء حرائق اندلعت في غاباته وأحراشه وجباله. عند الوصول، أرسلت تغريدة قلت فيها إن لبنان سيتجاوز حرائقه وأزماته وعثراته وسيعود لاخضراره وجماله وازدهاره قريباً.
لكن خلال ساعات من الوصول إلى بيروت لحضور مؤتمر حول مستقبل الخليج والشرق الأوسط، بدأت الأخبار تتدفق عبر رسائل "الواتساب" عن مسيرات احتجاجية. بدأت تلك المسيرات مساء وتصاعدت ساعة بساعة واستمرت حتى فجر الساعات الأولى من اليوم الثاني. فجأة قرر جميع المشاركين في اللقاء العودة ومغادرة لبنان على وجه السرعة، فلم يعد لبنان مستقراً ومطمئناً خاصة للمشاركين من أوروبا وأمريكا. شاءت الأقدار أن أتواجد على بعد أمتار فقط من غضب الشارع اللبناني، الذي امتد من ساحة رياض الصلح في وسط بيروت إلى شمال وجنوب لبنان، وخلال ساعات بلغ كافة مدن وقرى وجبال ووديان وسواحل لبنان، البلد العربي الوحيد الذي ليس فيه صحراء. وعلى مدى يومين متتاليين، عشت وعايشت وشاهدت واستمعت عن قرب شديد للهتافات والمسيرات وحالة الاستنفار الأمني ورأيت الغضب على وجوه الصغير والكبير ممن قابلتهم وتحدثت إليهم وسهرت معهم قبل العودة إلى الإمارات بناء على دعوة الحكومة الإماراتية التي طلبت من مواطنيها عدم السفر إلى لبنان مؤقتا، ونصحت من هم في لبنان أخذ الحذر والعودة سريعاً حفاظاً على سلامتهم. كان طريق المطار آمنا بوجود الجيش اللبناني بكثافة على امتداد الطريق، لكن الذهاب إلى المطار كان عسيراً ومحفوفاً بالمخاوف الأمنية، وكان لا بد من الحضور إلى المطار قبل 6 ساعات من موعد رحلة المغادرة.
خلال المشاركة في مسيرة اليوم الثاني سمعت هتافات وشاهدت لافتات تقول: "الشعب يريد اسقاط النظام، ثورة ثورة ثورة، هني هني كلهن أرطة حرامية، واحد واحد واحد الشعب واحد". كانت الشعارات واضحة فيما تقول: لقد طفح كيل الشعب اللبناني الذي تم حشره تحت عباءة ميشال عون وجبران باسيل ونبيه بري وحسن نصر الله وسعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع وبقية أفراد طبقة سياسية حاكمة زجّت بأحد أجمل الأوطان في متاهات وأزمات مستعصية وخانقة يصعب الخروج منها باستمرار هذه الزعامات.
لقد وضع الشارع اللبناني الغاضب النظام السياسي والطائفي بقضه وقضيضه، ورموزه ورجالاته في قفص الاتهام. جميع هؤلاء خرجوا منذ اليوم الأول من المسيرات الاحتجاجية يدعون العفة، والتهرب من المسؤولية تجاه دخول لبنان إلى نفق مظلم، كما حاول جمعيهم ركوب الموجة والتسلق على ظهر حراك شعبي شبابي عفوي وإصلاحي شعاره ليس إصلاح النظام وإنما إسقاط النظام.
فجأة تحول شعار الحراك الشعبي من شعار مطلبي وواقعي إلى شعار سياسي وثوري رفع سقف المطالب إلى حدود قصوى، قد تكون غير واقعية. فالخلل الذي يعاني منه لبنان عميق جداً ويصعب إصلاحه عبر الشارع مهما كان غاضباً ولا عبر نظام سياسي متجذر في الفساد غير قابل للإصلاح.
لقد فقدت الحكومة السيطرة على الشارع اللبناني. من يحكم الشارع ويدير الميادين هم شباب لبنان، رجال ونساء، من كل الطبقات الاجتماعية، الفقيرة والأقل فقراً، ومن كل الانتماءات الطائفية، حطموا جدار الخوف وركب بعضهم الدراجات النارية وارتدى البعض الآخر أقنعة (الجوكر)، ينظمون المسيرات، وقد يدفعون لبنان نحو المجهول، لكن المجهول على ما يبدو أفضل بكثير من الواقع الذي يعيشونه. وقد يشمل هذا المجهول استقالة الحكومة وانهيار العهد والمزيد من الفوضى وتحول المسيرات السلمية إلى مواجهات عنيفة كتلك التي اندلعت في عدة مدن في الجنوب، حيث تم حرق مكاتب نواب حركة أمل. كذلك اندلع العنف في مدينة طرابلس في شمال لبنان ضد مكاتب لعدد من النواب وتم حرق محلات تابعة لوزراء، خاصة محل لبيع الشوكولاتة اُقتحم من قبل بعض الشباب وتم توزيع حلوياته، مما دفع بالبعض ليطلق على الحراك الشعبي صفة "ثورة الشوكولاتة".
المؤكد أن شباب "ثورة الواتساب" غاضب، وما يرضون به اليوم لن يرضوا به غداً وقد استفزهم كثيراً ما سمعوه من خطابات الزعماء كخطاب جبران باسيل وخطاب سعد الحريري وخطاب حسن نصر الله، الذي استفز الحراك الشعبي عموماً والشارع الشيعي بشكل خاص، الذي تواجد بقوة في الحراك الشعبي، معبراً ليس فقط عن استيائه بل كرهه للثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله. كان خطاب نصر الله خطاب تهديد ووعيد لم يقدم فيه أي أمل في الإصلاح بل هدد أنه لن يسمح بسقوط الحكومة مهما كانت أخطاؤها، ولن يقبل باستبدال حكومة بحكومة أخرى، ولم يتحدث عن الفساد رغم أن حزب الله شريك كامل الشراكة في انتشار الفساد وانسداد أفق الإصلاح في لبنان. وإثر انتهاء الخطاب، توجه أحد المتظاهرين في بيروت للسيد حسن نصرالله، الذي يقاتل حزبه إلى جانب قوات النظام في سوريا منذ سنوات، بالقول: "لبنان أهم من سوريا يا سيد". فالكل يدرك أن حزب الله يهمين على كل كبيرة وصغيرة منذ 2006 ويشعر الآن أنه جزء من منظومة إقليمية تعتقد أنها انتصرت في العراق وسوريا واليمن وبيده كل معطيات القوة، لذلك يود الحزب استغلال الحراك الشعبي لفرض واقع سياسي جديد في لبنان وفق شروطه.
الحراك الشعبي الغاضب مستمر بزخم وقوة وقد يحقق أهدافه أو ينتهي إلى ما انتهت إليه المسيرات السابقة. مهما كان مستقبل ما يجري في لبنان حاليا، فالمؤكد أنه عندما وصلت إلى بيروت كان الوسم المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي "لبنان يحترق" وخلال تواجدي برز وسم "لبنان ينتفض" وبعد مغادرة بيروت أصبح الحديث المتداول "لبنان يثور"، والكل يتطلع الآن لبروز وسم جديد يفرح القلوب بعنوان "لبنان ينتصر" لنفسه ويؤسس لمستقبل مستقر ومزدهر.