هذا المقال بقلم الأستاذ الجامعي والكاتب اللبناني الدكتور سناء أبو شقرا، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
حققت ثورة الشعب اللبناني الهدف الأسمى: كسر نظام التقاسم الطائفي في وعي اللبنانيين، وهي على طريق كسره نهائيا في الحياة السياسية. توحد لبنان، في العمق، لأول مرة في تاريخه. عاد إلى أبنائه الذين هاجروا أو هجّروا أو استمروا على أرضه مرغمين. الجوع والألم والبطالة، التلوث والمرض والحريق، السرقة والفساد والقمع، كلها لا طائفة لها وكلها تضرب صميم حياة كل اللبنانيين، وتدمي قلوبهم ووعيهم ومشاعرهم. علم لبنان الذي ارتفع وحده في ساحات الشرف لم يكن أرزة على قماش، بل صرخة انتماء إلى وطن الحلم، وطن يبنى بعقول شباب يعرفون تماما كيف يجب أن تبنى الدول في هذا العصر.
بعد انتفاضتي الاستقلال 1943 و2004 اللتين كرستا سلطة داخلية، مستقلة شكلاً، من دون جيوش خارجية على أرضها، تأتي ثورة اليوم لتلغي المشروعية عن النظام السياسي المتخلف القائم على محاصصة طائفية، وعلى صفقات وتسويات أبطالها ورموزها هم أركان السلطة، وإن اختلفت بعض ممارساتهم وقناعاتهم.
لكن على الأرض هناك جملة من المخاطر التي قد تطيح بكل ما أنجز، إذا لم تتم مواجهتها بالوعي الكافي من جانب الثوار:
1- الآن تراهن السلطة على غياب القيادة لدى الشباب المنتفضين. وغياب القيادة معناه المباشر غياب الرؤية المشتركة لمسار الأحداث، وعدم اتفاق على أهداف محددة، وعلى خارطة طريق للوصول إليها. لذلك أصبح ملحا تشكيل لجان تنسيق موسعة في المناطق، تنتدب من يمثلها إلى هيئة تنسيق مركزية للإحاطة بكافة التطورات وتحديد أشكال التحرك المناسبة. مطلوب أقصى الثبات والعزيمة في مواجهة السلطة وأقصى المرونة في التعامل مع الاختلافات الداخلية. ولعل أحد مقاتل الحركة وأخطرها هي التنافسات الصغيرة على القيادة، والفردية المتضخمة، وتغليب الحاجات المناطقية والمحلية على الأهداف الوطنية العليا.
مهمة المراقبة والمحاسبة لاحقاً
2- في بدايات الانتصار يسهل التفاؤل واستصغار الصعوبات. لا بد من إدراك أن مخزون المواجهة لدى السلطة لا يزال كبيرا. الآن هي لا تستطيع أن تلجأ إلى القمع، لأسباب عديدة، لكنها قادرة، بعد وقت ربما، على إيجاد الذرائع التي قد تبرر استخدامه. إن بعض أركان السلطة مستعد أن يلجأ إلى أشرس الأسلحة، وصولاً إلى الفتن الداخلية والحرب ليدافع عن مرتكزات النظام المهددة.
3- حتى الآن لم تنخرط الثورة في اقتراح بنود عملية تفصيلية. ولأنها لم تطرح نفسها بديلا عما هو قائم، عليها أن تكون الشريك الأساسي في اختيار البديل المحتمل. هناك مثلا عشرات الأسماء ممن يمكن أن يشكلوا حكومة "الضمير والكفاءة" التي يسعى إليها المتظاهرون، وإذا كان من الضروري إجراء انتخابات نيابية مبكرة فيجدر تقيم اقتراح بالقانون الانتخابي (النسبية الشاملة والدائرة الانتخابية الواحدة مثلا). فلماذا انتظار مقترحات السلطة ثم يهب الشارع لرفضها؟ الموقف الهجومي الإيجابي هو الذي يبقي المبادرة في يد الثوار، ويبقي السلطة في موقع رد الفعل.
4- أثبت الثوار في ابتعادهم عن طرح المشكلات الخلافية مستوى عاليا من الحكمة والتقدير. الدخول في المعترك السياسي المكشوف سيضعف الإجماع القائم أصلا على المطالب المعيشية. ولكن سيظهر بعد فترة وجيزة وبوضوح حاد، مدى الترابط بين الأزمة المعيشية والخيارات السياسية الكبرى، في الداخل كما في الصراعات الدائرة في المنطقة وحولها. ومحاولات البعض توجيه النقمة إلى هذه المؤسسة أو تلك (كالمصرف المركزي مثلاً) هو خيار سياسي بامتياز. لكنه خيار مجتزأ وخاطئ في الظروف الراهنة. لذلك يبدو أن الاستعداد للبحث في جوهر هذه المسائل، هو، منذ الآن، مهمة لا مفر من أدائها بصورة سليمة تضع المصالح الوطنية العليا فوق أي اعتبار.
أخيراً، أيا كانت إنجازات هذه المرحلة تظل وليدة ظروفها وتوازن القوى بين أطرافها، لذلك ستستوجب المرحلة القادمة، حكماً، مراقبة يومية من جانب الرأي العام والقوى المدنية على أداء السلطة، وقدرة على محاسبتها، واستعداداً للنزول مرة جديدة إلى الشوارع في حال الارتداد أو التلكؤ والالتفاف على منجزات هذه الانتفاضة. وهذا يستدعي بدوره إبداع صيغ جديدة من التنظيم تتسع لهذه الملايين التي زرعت أحلامها في كل زاوية من شوارع لبنان وساحاته.