رأي.. طارق عثمان يكتب لـCNN: كيف نفهم المعضلة الكبرى في الفكر الإيراني ونظرته للعرب؟

الشرق الأوسط
نشر
11 دقيقة قراءة
طارق عثمان يكتب لـCNN: كيف نفهم المعضلة الكبرى في الفكر الإيراني ونظرته للعرب؟
Credit: gettyimages

هذا المقال بقلم طارق عثمان، الكاتب والمعلق السياسي، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

الفكر الإيراني مهم، لأن إيران واحدة من الدول القليلة في المنطقة ذات القدرة على التأثير بعيداً عن حدودها، كما أنها واحدة من الدول القليلة التي يؤثر فعلها في عمل وتفكير دول كبرى. ومع وقبل ذلك، إيران دولة ذات مراكز تفكير متعددة، وكلها تعبيرات عن حضارة ذات عمق ثقافي مهول. 

لكن فهم التفكير الإيراني يستدعي الانتباه لمعضلة حاكمة فيه.

الجانب الأول لتلك المعضلة، ثقافي:

إيران كانت الإمبراطورية الأولى التي وقعت أمام الجيوش الإسلامية التي خرجت من الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. وقد كان ذلك بداية الانهيار السريع لتلك الإمبراطورية التي مثلت وقتها الحضارة الفارسية. لكن ذلك الانهيار كان نفسه بداية دخول الإسلام، ليس فقط كدين الفاتحين، ولكن كدين إيران الجديد. 

والذي حدث أن لعب المجتمع الإيراني دورا هاما في لحظات فارقة في التاريخ الإسلامي، وبعد ذلك في تطور تيارات هامة داخل الفكر الديني الإسلامي، هنا تغير مكان الإسلام في الوجدان الإيراني، ليمتزج بالتراث الثقافي لحضارة تلك الأرض. 

لكن ذلك الامتزاج وَلَد معضلة. دخول الإسلام في قلب الوجدان الإيراني لم يلغ حقيقة أن دخوله وضع نهاية لتدفق تاريخ الحضارة الإيرانية، وأن تلك النهاية للحضارة الإيرانية جاءت بأيدي عربية. المعضلة هنا أن إيران، ولقرون قبل وبعد دخول الإسلام لأرضها، نظرت للعرب باستعلاء (وهذا لفظ مهذب). ذلك أن المجتمع الإيراني، وخاصة الطبقة العليا فيه، رأت فارقاً شاسعاً بين إنتاج حضارتها وإنتاج ثقافة البادية في الجزيرة العربية. ولذلك فإن سقوط الحضارة الفارسية على أيدي عربية، وارتباط الإسلام في لحظة ظهوره، بالعرب، خلق غضبا في الوجدان الإيراني.

والذي حدث أن حاول عدد من المفكرين الإيرانيين (خاصة في عز الدولة العباسية وكانت لفترة إيرانية الهوى) ثم في القرنيين السابع والثامن عشر، ان يُفَرقوا بين الهوية الإسلامية (وقد أصبحت في قلب الوجدان الإيراني) وبين الثقافة العربية (والتي ما زالت مرفوضة في ذلك الوجدان). وحيث أن الغالبية في إيران قد اعتنقت الإسلام ولكنها لم تقبل اللغة العربية، فقد كانت تلك التفرقة ممكنة.

لكن ذلك لم يحل المعضلة، إذ ظلت إيران جزءا من العالم الإسلامي – ذلك الذي لعب العرب الدور الحاسم في خلقه وتاريخه وتوجيهه – ولكن ظلت أيضا نظرة إيران إلى كينونتها الثقافية على أنها أرفع كثيراً من تلك لمؤسسي وموجهي ذلك العالم.

وذلك يوصلنا للعامل الثاني في المعضلة: وهو تاريخي.

إيران – سواء في قلبها في أراض فارس، أو شرقا في خراسان وما وراءها (دول وسط آسيا اليوم) – قدمت عددا من أهم المفكرين والعلماء والأدباء الذين أثروا الحضارة الإسلامية. كما أن الحركة الصوفية في المشرق مدينة لعدد من المفكرين الإيرانيين، بأكثر مما يتصور كثيرون. 

لكن، بالرغم من ذلك، بقي التأثير الإيراني على حركة التاريخ الإسلامي، محدودا للغاية. 

ولعل ذلك راجع إلى أن الكثير من المفكرين الإيرانيين كتبوا باللغة العربية، وخدموا في دول إسلامية أسستها وسادتها أُسر عربية. كما أن أهم محاور التاريخ الإسلامي كانت دائماً في العالم العربي أو في أراض قبلت باللغة العربية. 

والخلاصة هنا، أن إيران بالرغم مما تصورت (عن حق) أنه إضافات كبيرة منها للحضارة الإسلامية، بقيت بعيدة عن مواضع القرار، وقد عَمَق ذلك من المعضلة في الوجدان الإيراني. 

حتى الجغرافيا زادت من المعضلة.

ذلك لأن مراكز الحكم الكبرى في العالم الإسلامي كانت أيضا في العالم العربي – بداية من فترة الخلافة الأولى في الحجاز ثم في الشام ثم في وسط العراق ثم في مصر والأندلس. وبالرغم من نجاحات التوسع الإسلامي شرقا في آسيا، إلا أن أهم الممالك الإسلامية التي ظهرت هناك (مثل المُغال) بقيت بعيدة في تأثيراتها السياسية والثقافية عن قلب العالم الإسلامي. وكان من نتائج ذلك أن تشتت الجهد الإيراني على مدى قرون، بين ما يحدث في غربها (في الشام حيث عدد من أهم الديناميكيات في العالم الإسلامي) وبين ما يحدث في شرقها (في الهند وما بعدها، وتلك مناطق ارتبطت إيران بها لأزمنة طويلة).

وكانت المشكلة الأعمق أن الجغرافيا قد فرضت على إيران أن تتجه إلى غربها، لأن ما سواه مغلق. بمعنى، أن في الشمال هناك روسيا، وهي دائما لاعب كبير وخطير لا تريد إيران الدخول في مشاكل معه.  كما أن في الجنوب هناك بحر واصل إلى محيط. وإيران لم تكن أبداً إمبراطورية بحرية. أما في الشرق، فبالرغم من عمق الاتصالات الثقافية بين إيران والهند، إلى أن الهند كانت دائماً كيان كبير ثري متعدد الهويات، يمكن لإيران الاستفادة منه، ولكن تبقى القدرة على التأثير فيه محدودة للغاية. إذن إذا أرادت إيران الخروج من حدودها من أجل نفوذ أو مصالح أو طموح إمبراطوري، فهي مضطرة إلى التوجه غرباً: نحو العالم العربي.

الناحية العربية عمقت المشكلة، لثلاثة أسباب:

  1. العقل العربي لم يعط إيران الكثير من التفكير، ليس عن عدم احترام، ولكن بحكم البُعد الثقافي. فمن ناحية، عدم تُحدُث إيران اللغة العربية جعل أغلب نتاجها الثقافي بعيدا عن العقل العربي. وعندما اهتم العقل العربي بنتاج الثقافات الأخرى (بشكل رئيسي في القرنين الماضيين للحاق بما قد فاته) كان اهتمامه موجها للثقافات الغربية. وكان ذلك منطقيا بحكم تقدم الغرب، بينما الشرق كله، بما فيه إيران، كان في حالات قريبة من التأخر في العالم العربي. 
  2. العقل العربي شعر دائماً بذلك الإحساس التفوقي في العقل الإيراني ناحيته – والذي لم يحاول الكثيرون من الإيرانيين إخفاءه. وكان طبيعيا أن يخلق ذلك عدم ارتياح عربي من أي توسع إيراني في اتجاهه. 
  3. المشكلة زادت في القرن التاسع عشر حين أصبحت السنية السياسية قوة واضحة في الشام، والشيعية السياسية قوة واضحة في إيران. والاثنان تأثرا بتراث طويل فيه ما فيه من الحذر والقلق من الآخر. 

والحاصل من كل ذلك، أن التاريخ والجغرافيا دفعا إيران نحو غربها، متجهة إلى العالم العربي، طامحة في ما تراه حقا لها في دور قيادي في العالم الإسلامي. إلا انها دائماً ما وجدت تلك الطموحات تصطدم بواقع رافض. 

وقد أضاف القرن العشرين جراحاً عميقة في الوجدان الإيراني زادت من تأثير المعضلة:

ذلك أن سقوط الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن أزاح عدوا تاريخيا من أمام إيران. لكن انهيار الدولة العثمانية فتح الباب أمام بريطانيا لتوسع نفوذها من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى إيران. وكان خلق دولة جديدة في إيران (حكم آل بهلوي) بإرادة وتخطيط وحماية بريطانية (ثم من بعد أمريكية) ضربة في عمق الوجدان الإيراني. وإن لم يكن للعرب علاقة بأي من ذلك، إلا أن تلك التجربة الطويلة للسيطرة الغربية على إيران خلقت هناك طاقة في المجتمع أرادت الانطلاق من تحت تلك السيطرة إلى الجوار، طاقة أرادت بعثا جديدا للنفوذ الإيراني. وكالعادة، كان حكم التاريخ والجغرافيا أن تحاول إيران التوجه نحو غربها.

لعل التوجه الأهم هنا في تلك المرحلة كان في نداء الخميني للعالم العربي، بمعنى تصوره بأن الثورة الإسلامية في إيران – وهي لا شك الحدث السياسي الأهم في كل الشرق الأوسط في الربع الأخير من القرن العشرين – ستُلهِم ملايين في العالم العربي للمطالبة بأنواع من الحكم الإسلامي. وأنه في جو عام من نجاح وسيطرة الإسلام السياسي، سيكون لإيران الثورة الإسلامية دور قيادي واصل إلى كل العالم الإسلامي. هنا تداخلت الأحلام التاريخية مع تراكمات المعضلة في التفكير الإيراني مع الإيمان الديني.

لكن النتيجة كانت غير ذلك تماماً. نجاح الثورة الإسلامية في إيران زاد من الصراع بين النُظم الحاكمة في العالم العربي وبين تيارات الإسلام السياسي في تلك الدول. كما أن نجاح الثورة الإسلامية ونداء الخميني أثارا مخاوف عربية. وكانت النتيجة الحرب العراقية الإيرانية. وقد عقدت تلك الحرب من المعضلة، لأنها أضافت الكثير من السم في الوجدانين العربي والإيراني.

لذلك فإن إيران اليوم تواجه اختيارا صعبا:

إيران استطاعت أن تستغل ظروف الدخول الأمريكي العسكري في المشرق العربي وتدميرها لهيكل الدولة العراقية، ثم الأمواج الهادرة التي جاءت مع الثورات العربية في العقد الماضي، لتتوجه إلى غربها، ولتحقق لأول مرة منذ قرون عديدة الهدف الذي أرادته منذ أزمنة بعيدة: وهو دور قيادي وأحيانا حاسم في تلك المنطقة. 

بأي رؤية تاريخية، هذا نجاح إيراني مهول، لكن ذلك النجاح يحمل في طياته تحديات كبرى.

من ناحية، أهمية شرق البحر الأبيض المتوسط، ووجود إسرائيل فيه، جعلت التوسع الإيراني هناك مشكلة لعدد من الدول الغربية القادرة، وأقدرها بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية. 

من ناحية أخرى، بالرغم من أن العالم العربي يمر بلحظة ضعف قاسية (حتى بمقاييس تاريخه الحزين في القرنين الماضيين)، إلا أن ذلك النجاح الإيراني في قلب العالم العربي، حرك قلق ومحاذير ومشاعر ضد ذلك النفوذ الإيراني.

ونتيجة ذلك أن إيران تواجه اختيارا: إما أن تندفع أكثر لتعمق من وجودها في قلب العالم العربي ولتزيد نفوذها فيه، مستجيبة لطموحات ونداءات قوية ذات عمق في تاريخها، ولكنها بذلك ستزيد من احتمالية صراعات في تلك المنطقة ستكون هي طرف رئيسي فيها، أو أن تقرر أن ما يُثيره نفوذها في العالم العربي من تحديات (والأهم، من غضب عربي) يستدعي مراجعة، ليس في استراتيجية التوجه نحو العالم العربي، بل في أسس علاقتها بذلك العالم العربي.