رأي: إدوارد سعيد.. لماذا لم يكتب عن العالم العربي؟ هل عرف شيئا لم نعرفه؟

الشرق الأوسط
نشر
12 دقيقة قراءة
 الكاتب والباحث الفلسطيني إدوارد سعيد يتحدث إلى الصحفيين في مؤتمر صحفي
Credit: PIERRE-PHILIPPE MARCOU/AFP via Getty Images

هذا المقال بقلم طارق عثمان، الكاتب والمعلق السياسي، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيه ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

صوت إدوارد سعيد كان الأهم والأشهر في الحديث عن العالم العربي، خارج العالم العربي. نقطة المكان (خارج العالم العربي) مهمة، ذلك أن إدوارد سعيد اختار أن يعيش في نيويورك وقد كانت لعقود منزله الذي يعود أليه بعد أسفار طويلة. كما أنه قضى أوقات ممتدة في لندن وباريس وشمال كاليفورنيا. وعندما أراد، في فترة من حياته، أن يعيش تجربة الوجود داخل العالم العربي، اختار ان يقطن في واحدة من أرقى مناطق بيروت. وهناك، كما في نيويورك وغيرها، كانت تجربة إدوارد سعيد مع العالم العربي، ناظرة من بعيد، واقفة على الحدود، و كان اقترابه من العروبة، بعد سنوات كثيرة من الإغتراب، من طرق مهدتها الثقافة الغربية.

كل ذلك كان جزءاً من منفاه. الرجل كان الفلسطيني الذي كبُر في القاهرة، قضى اجازاته في جبل لبنان، تعلم في مدرسة انجليزية، وذهب الى الجامعة في شمال شرق الولايات المتحدة، قبل أن يختار نيويورك ليُكمِل فيها حياته. الرجل شكل وجدانه في أماكن مختلفة، وعبر غوص في أعماق الثقافة الغربية. وكانت النتيجة أن بنى إدوارد سعيد فوق العروبة التي عرفها في طفولته وصباه، طبقات من التجارب والمعارف والأفكار.

الأفكار كانت عالم إدوارد سعيد. إدوارد كتب "الاستشراق"، الكتاب الذي وضع تحت المجهر "التفكير والعقلية الاستعمارية" الغربية، وأظهر، بقوة وأحيانا بشراسة المظلوم، كيف كانت الأفكار الغربية عن الثقافة العربية وأسلوب الحياة في العالم العربي والتصورات الغربية عن المجتمعات في الشرق بوجة عام، الطريق الذي سار عليه الغرب نحو الاستعمار والتحكم.

إدوارد سعيد كان ايضًا الصوت الأهم في العالم في شرح القضية الفلسطينية. وكانت اضافته الكبرى أنه أعطى للصوت الفلسطيني كفاءة ورقي بالإضافة الى التمكن من الثقافة الغربية التي يتمتع بها واحد من أهم أساتذة الأدب المقارن في واحدة من أهم جامعات الولايات المتحدة. وقد كانت تلك الإضافة جسرًا كبيرًا دخلت منه القضية الفلسطينية بسلاسة إلى دوائر فِكْر مهمة في كبريات الصروح الثقافية والإعلامية والتعليمية في الغرب.

وبالإضافة إلى ذلك، طارت أفكار الرجل إلى ما هو أبعد. إدوارد كان واحداً من أبرع مفسري الشرق للغرب والغرب للشرق. وكانت الكتابات التي اختار أن يتوقف أمامها ويشرحها، تلك التي كوّنت (في رأيه) تصور كل منهما للآخر. وكان ذكاء إدوارد سعيد أن ما توقف أمامه شارحًا و مفسرًا لم يكن فقط في الأدب والسياسة، بل ايضًا في الفلسفة والتاريخ وعلوم الانسان والمجتمع. ومن خلال تلك التفسيرات قدّم إدوارد سعيد لنا رؤيته لطريقة تعامل الغرب والشرق مع بعضهما البعض. كيف كانت الأفكار الفلسفية والنظريات الأدبية في أحيان كثيرة تمهيدًا لسياسات وتشريعًا لهجمات جعلت تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، خاصة في القرون القليلة الماضية، حقول ألغام.

و لعل الثراء في فكر وكتابات الرجل صعّب من احتواء انتاجه في اطار أكاديمي. وعليه، كثيرًا ما رأينا كتبه و مقالاته مدرجة في أقسام الآداب أو علم الاجتماع أو دراسات الشرق الأوسط. لكن تصوري أن أفكاره و كتاباته تجد مكانها الطبيعي حيث توجد نقاشات مفتوحة، حرة.. ولعلها ليست مصادفة أن الرجل أحب السهر في مقاهي باريس وبيروت حيث الأحاديث والنقاشات الطويلة في ساعات الليل تضيء العقول وتصل ومضاتها الى أعماق الوعي.

إدوارد سعيد كان قبل وبعد كل شيء، رجلًا في منفى .. وقد كانت كلمة المنفى اختياره لكتابه الأهم عن حياته. فلربما قدمت نيويورك، بالإضافة الى المنزل، حياة جميلة صاخبة حرة مناسبة لأكاديمي وكاتب. لكن النفي الداخلي في وجدان إدوارد سعيد – النفي من العروبة الى الغربية، والنفي من الغربية الى العروبة، وقبل الأثنين ومعهما، النفي من فلسطينيته – شكّلوا فراغًا عملاقًا تحدث عنه كثيرًا. ومع النفي والبُعد تداخلت أشياء وانزوت أخرى. تداخلت نيويورك مع القاهرة وبيروت، تداخل الأمريكي مع العربي، الآداب مع الموسيقى، الشرق مع الغرب، الأكاديميا مع البوهيمية. التجارب المختلفة أصبحت كما الضغط على الكاربون خالقًا منه ماس. ما جال فيه إدوارد مع معارف، ما دخله من نقاشات، ما عرفه وفكّر فيه وكتب عنه، حوَل الكثير مما كان داخله إلى مادة غالية وثمينة وبراقة.. لكنه بقى بلا مكان ينتمي إليه. وربما الصعوبة الأساسية التي واجهت إدوارد سعيد، خاصة في العقد الأخير من حياته – بعيدًا عن مرضه – كانت في تحديد انتمائه. ولعل ثقل وجمال وثراء الماس أغروا بالبعد عن أي تحديد، أغروا بالسطوع من أجل السطوع، وفي سطوع النجوم هداية للتائهين.

لكن أحيانًا تبدو النجوم هي نفسها تائهة في فراغ. وقد كانت الوجهة – تحديد الانتماء - السؤال المُلِح على عقل إدوارد. ولذلك لم يكن غريبًا أن يُسمي إدوارد ذلك الكتاب الرئيس عن السنوات التكوينية في حياته: "خارج المكان"، والمقصود، خارج الانتماء للمكان، سواء كان المكان في العالم العربي أو خارجه. ولعل جزءاً كبيراً من جولات إدوارد وبحثه في أفكار ومدارس وعلوم متعددة كان محاولات إيجاد مكان له، مكان حقيقي وليس مجرد فكري، ينتمي اليه. ولا شك أن أي قراءة هادئة لكتابات إدوارد سعيد، خاصة حول الآداب العالمية، ستلمس قلق، قفزات، وأحيانا عصبية في الحركة من فكرة إلى أخرى. لكن، مع الزمن ومع ثقل التجارب، مع ظهور الماس داخل عقله، بدأت الحركة تهدأ. وكما تمنى كثيرون ممن اقتربوا منه ورأوا بوضوح الندوب التي تركها النفي على أعماق وجدانه، ان يكون هدوء الحركة قد أتى له ببعض السكينة في سنواته الأخيرة.

لكن جزءاً من الوصول الى السكينة، أو على الأقل البعد عن هدير النفي الداخلي وصعوبة تحديد الانتماء، كان البعد عن العالم العربي. ليس فقط بعدًا جغرافيًا، وقضاء أغلب الوقت في الغرب. ولكن أيضًا البعد فكريًا. إدوارد استمر في متابعة عدد من الكتاب العرب، استمر في الكتابة في اثنين من أهم الصحف العربية (وإن كان قد اختار أن يكتب بالإنجليزية)، كما أنه استمر في نقاشاته الطويلة مع مجموعة من المفكرين، الذين كانوا وقتها شبابًا، حول الكثير مما كان يحدث في العالم العربي في التسعينات. لكن الصلة المباشرة بالمكان والأهم بملامسة الثقافة في تعبيراتها في الحياة اليومية، قلت جدًا. الرجل قرر أن تكون علاقته بالعالم العربي، الذي كان هو أهم أصواته في الخارج، علاقة قائمة على الوصل بالماضي، بالسياسة، وبالثقافة كما تُكتب و تُحلل، لكن ليس كما تُعاش.

أنا أتصور أن إدوارد أدرك بعد سنوات من الصراعات حول العالم العربي وخاصة حول القضية الفلسطينية، ان مهمته ليست شرح العالم العربي، وليست الدفاع عنه، ولكن تقديم تصوره هو لزوايا معينة في تجربة ذلك العالم في العصر الحديث، وأن يكون التقديم خارج العالم العربي، وخارجًا (فكريًا) من أطر وتوجهات غربية بالدرجة الأولى. أي أن نظرة إدوارد سعيد للعالم العربي، كانت في لحظات الابداع الحقيقي، نظرات غير عربية في جوهرها، وموجهة بالدرجة الأولى إلى متلقٍ غير عربي.

وربما أن الدافع الحقيقي وراء ذلك الإدراك، أنه شعر أنه لا يحق له أن يشرح بعد أن وجد ملجأه خارج العالم العربي، لا يصح له و قد استوعب داخل وجدانه ثقافة أخرى تماما واتخذها مرجعًا ومنطلقًا فكريًا، أن يكتب النص الرئيس حول العالم العربي الذي تركه مكانًا والى حدٍ بعيد فكرًا.

إدوارد كان قبل كل شيء أستاذ أدب مقارن، ومن بين كثيرين ممن غاص في أعمالهم بقى جوزيف كونراد الأقرب الى فكره، وربما الى وجدانه. وبلاك كاتب وصل الوعي العام للمجتمع بالمكان الذي يعيش فيه ذلك المجتمع، خاصة المجتمعات الغربية التي استوطنت أفريقيا وآسيا، سواء كان ذلك الوجود إستعماراً محدود الوقت أو استيطاناً زرع ثقافة في أرض مختلفة عن أصولها. ولعل جزءاً مما غاص داخل إدوارد مما استوعبه من بلاك كان شعوراً دفيناً بان إدوارد بعد أن ذهب بعيدًا عن العالم العربي، أصبحت علاقته بالمكان، إما سطحية أو تحمل قدراً من الصنعة .. وهنا، فإن إدوارد – بحساسيته المفرطة، وبرقيه الجميل – غالبًا قرر أنه لا يحق له أن يكون حامل القلم عن العالم العربي. وعليه قرر أن يكون شرحه عن العالم العربي، محدد الأبعاد، وبشكلٍ رئيسي دائرًا حول علاقة العالم العربي بالغرب، أو في قضايا سياسية معينة، كان أهمها بالطبع القضية الفلسطينية. الرجل قرر أن لا يكون الشارح للكل، وقد أدرك انه، بابتعاده، بنفيه، قد أصبح حاملًا وربما فاهمًا، فقط لجزء.

ربما كان هناك عامل آخر في أنه لم يكتب عن العالم العربي.. وذلك أنه قد بدأ يرى، من بعيد، قبحًا، بدا غريبًا عن العالم العربي الذي عرفه قبل غيابه. الجمال والليبرالية والتنوع الثقافي الذين عرفهم في قاهرة الاربعينات والخمسينات وجلال وسلام جبل لبنان، كل ذلك راح في غياهب الماضي، وحل مكانهم قبح في العمران، في التعاملات، و في المجتمعات. واذا كان للرجل أن يكتب، لكان قد صب غضبًا وحزنا. ولذلك، ربما، اختار الرجل أن لا يكتب. ولتبقى ذكريات الجمال معه ولا تخرج في سرد، كان بالضرورة سيكون عن انهيارات في الفكر والثقافة ومعاني الجمال في العالم العربي.

ربما لعب الزمن دوره في حث الرجل على الصمت. في العقد الأخير من حياته، إدوارد، الرجل الذي كان يموت ببطء من سرطان الدم، الرجل الذي عاش قصتي حب روتا جانبين مختلفين من شخصيته وقد فاوض مع قلبه وعقله وظروفه ففشلت القصتين، الرجل الذي عرف أن قضيته (فلسطين) لن تجد نهاية يرضاها في حياته، والرجل الذي عانى وراء واجهة براقة من إحساس عنيف بالوحدة.. ذلك الرجل، بينما هو في انتظار الموت، ربما رأى ان أولوياته هي سلام داخلي بحث عنه طويلًا، أكثر من ملئ فراغات في انتاجه الفكري، حتى وإن كان الفراغ الأكبر عن العالم العربي الذي كان هو أهم رموزه في الخارج.

وفي النهاية، مثل الآداب التي درسها ودرَسها، يبقى إدوارد سعيد كنزا من الأحساسيس والأفكار، خرجت في تعبيرات زكية وبراقة. ولذلك يبقى بعد ما يقرب من 20 عامًا على وفاته، مزارًا فكريًا لأي مهتم بالعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين .. لكن خاصة لنا نحن، العرب، تبقى الزيارات الفكرية لإدوارد سعيد مفيدة، لأنه وإن لم يكتب عنا حقًا، فقد ترك لنا في أفكاره وكتاباته، أدوات يمكننا ان نستعملها لفهم مجتمعاتنا، لفهم ما الذي جرى فيها ولها في العقود الماضية. ولعلنا بذلك نقوم بالجزء التفسيري الذي لم يرغب إدوارد أن يقوم به.