في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
فكرة القومية العربية نضجت في الأربعينات. وقد تفتّحت عن هذا أفق واسعة كان فيها فرص مهولة، كما نتج عنها مشاكل أظهرت الأيام أنها ضاربة في عمق مجتمعات المنطقة.
نضج فكرة القومية العربية كان في الشام. ولم يكن ذلك غريبًا، لأن بزوغ القومية العربية في شكلها الحديث كان أيضًا في الشام، في نهايات القرن التاسع عشر.
في ذلك الوقت بدا الموت البطيء للإمبراطورية العثمانية فرصة لقوميات مختلفة داخل الإمبراطورية أن تظهر، ليس فقط للمطالبة بحقوق، ولكن لتعبئة من قيل وقتها إنهم أهل تلك القوميات بهدف خلق دول جديدة، قومية وليست دينية.
في تلك الفترة - نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين - ظهر نوعان من القومية العربية. الأول كان في الجزيرة العربية. تلك القومية كانت تقليدية في فكرها و شكلها، كما في تصورها للهوية - كل ذلك كان مبنيًا على استدعاء لقيم وأساليب حياة وتصورات للمجتمع من تاريخ القبائل العربية عبر قرون. وهناك، كانت فكرة القومية متداخلة مع أنواع من الإسلام السياسي.
لكن في الشام ظهر نوع أخر من فكرة القومية العربية، بدا في أوله قائمًا على اللغة العربية وعلى تطورات شهدتها الثقافة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ذلك كان وقت حركة ترجمة واسعة وبدايات أسفار و تعارف على الثقافة الأوروبية، وقد تبع ذلك بدايات المسرح والصحافة والمقال ونقلات في الموسيقى العربية. ومع انتشار تلك المجالات، خاصة في المراكز العمرانية، حدثت نقلة في أعلى الطبقات الوسطى - في الشام بالدرجة الأولى - وهي أن الهوية الدينية (إسلامية أو مسيحية بتنوعات المذاهب و الطوائف) تراجعت الى حدٍ واضح أمام فكرة الانتماء إلى ثقافة عربية بدت وقتها في مرحلة نمو وتطور قائم على مزج ما يؤخذ من الغرب مع ما يُعاد اكتشافه من التراث.
في تلك الفترة بدأ عدد من الكتاب يغوصون في تراث الشعر العربي وفي الفلسفة التي ظهرت في فترات الغنى في الحضارة الإسلامية، ويأخذون من الشعر و الفلسفة و ابداعات فترات الاشراق في التاريخ العربي أو المتصل به وقتها (وأههمه الفارسي والإغريقي)، ويعيدون صياغته أو يقدمونه للتحليل أمام جمهور كان يزداد مع انتشار وسائل الإعلام الحديثة، وأهمها وقتها الراديو والمطبوعات قليلة الثمن.
كل ذلك قدّم فكرة جديدة عن العروبة - فكرة قومية قديمة، راسخة في لغة شديدة الجمال، ومحاطة بثقافة ذات تراث مهول في ثرائه. هذه الصورة جعلت القومية العربية الوليدة وقتها في الشام تبدو ليس فقط كمشروع استدعاء ثقافة قديمة متجذرة في المكان، ولكن أيضًا كمشروع لذلك الزمان، مشروع تحرر من الوجود العثماني الذي رآه كثيرون وقتها كاحتلال تركي.
نجاحات الدولة المدنية، خاصة في مصر في العشرينات و الثلاثينات (موضوع المقال السابق في هذه السلسلة) و التنوع والثراء الاجتماعي الذي نتج عن هذه النجاحات أعطى الأفكار التي ظهرت في الشام في بدايات القرن قوة دفع، لأن الكثير من المثقفين المصريين رأوا في فكرة القومية العربية التي أتتهم من الشام تعبيرًا عن صداقات وصلات قرب (وأحيانًا قربى) ولاشك تعبيرًا عن اتصال ثقافي متين وعريق. كما أن عددًا من السياسيين المصريين تعلقوا بفكرة القومية العربية كمقابل للتغريب، وقد رآه بعضهم دعمًا اجتماعيًا و ثقافيًا للوجود الغربي في مصر وفي المنطقة. نتيجة لذلك، انتقل جزء من قوة دفع القومية العربية التي نشأت في الشام الى مصر (ومصر وقتها عاصمة الفكر و الفن والاعلام في كل المنطقة).
لكن الانتقال حمل معه صراعًا مكتومًا، ذلك أن تيارات الاسلام السياسي بأنواعها رأت في القومية العربية خطرًا. من ناحية، فكرة هوية مدنية بعيدة (عن قصد) عن الدين و مُحاوِلة تحجيم دور الدين في العمل العام، وخاصة السياسي، كانت بالضرورة على تضاد مع فكر كل مجموعات الإسلام السياسي. بالإضافة إلى ذلك، جزء من نجاح تيارات الاسلام السياسي في مصر في الثلاثينات والاربعينات قام على رفض التغريب والنقل من أوروبا من منطلق ديني. لذلك، فإن رفض التغريب من فكرة اجتماعية-سياسية بدا تحد فكري لم يعرفه الإسلام السياسي من قبل. وعليه لم يكن غريبًا أن عددًا كبيرًا من تيارات الإسلام السياسي هاجمت بشدة فكرة القومية العربية النابعة من الشام، في مقابل توافقها مع فهم الجزيرة العربية وقتها للقومية العربية وتداخُل ذلك الفهم مع دور الدين في المجتمع والعمل العام والسياسة.
ذلك الصراع المكتوم مع الإسلام السياسي ساعد القومية العربية في إطارها الشامي، لأنها بدت وقتها تيارًا معاديًا لأي احتلال للشعوب (التي بدأ البعض وقتها يُسميها بالعربية)، تيار تقدمي منادي بدول مدنية، غير مُفرِق بين الشعوب على أُسس دينية. وقبل كل ذلك، بدت القومية العربية القادمة من الشام وقتها متصلة بالنجاحات الثقافية والاجتماعية التي حدثت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في المراكز التي كانت وقتها أنجح و أرقى الأمثلة في كل المنطقة (القاهرة والاسكندرية، ودمشق وبيروت،).
وحيث أن الشام كانت دائمًا منتج العديد من أجمل تيارات الفن العربي، وكان أغلب تلك التيارات وقتها يجد لنفسه مكانًا في مصر، ظهر التكامل الثقافي وقتها بين الشام ومصر كمثال براق لتلك القومية العربية الوليدة.
بالطبع قوة الدفع الأقوى جاءت من السياسة. الأربعينات شهدت إعادة تشكيل المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في ١٩٤٥. الحرب غيّرت من توزيع الثروة في أغلب دول المنطقة كما بين دول المنطقة. داخل الدول، افتقرت الطبقات الوسطى نتيجة نقص في الوظائف وكساد أعقبه ضوائق مالية ثم تضخم. التغير ما بين الدول جاء نتيجة دخول البترول كالطاقة الأهم في العالم، وعليه بدا ميزان الثراء في المنطقة يميل ببطئ ولكن بحسم ناحية الدول المصدرة للبترول التي كانت وقتها ناشئة في الجزيرة العربية.
كالعادة التغيرات الاقتصادية الكبيرة حملت معها قلقًا اجتماعيًا عبّر عن نفسه من خلال هزات للاستقرار، بداية بحركات تمرد فلاحين مصريين على طبقة كبار ملاك الأراضي، ثم بمواجهات طائفية في الشام، سواء في المدن (مثل في دمشق) أو النواحي (مثل في جبل لبنان)، ثم في انقلابات عسكرية بدأت في سوريا، وهناك أنهت تجربة ليبرالية كانت قصيرة ولكن كان من الممكن أن تتطور.
سواء في التمردات أو المواجهات أو في حركات النقابات والطبقات الاجتماعية وصولًا الى حركات الجيوش، كانت فكرة القومية العربية حاضرة في الخلفية، مرنة، جذابة، ومعبأة بنداء الحرية من الاستعمار، وعليه أيضًا معبأة بنداء الثورة على الطبقات الاجتماعية التي صُورِت أنها موالية للاستعمار.
لكن في صعودها كانت القومية العربية النابعة من الشام مشتتة بين أحزاب مختلفة - بعضها بدا للحظات براقًا (مثل حزب البعث) ثم كان أن انطفأ البريق سريعًا - وبين مفكرين خلقوا تيارات كبيرة داخل حركة القومية العربية، مفكرين كانوا نجومًا في سماوات الصحافة والثقافة، ولكنهم منذ البداية وحتى الانزواء، كانوا بعيدين عن المؤسسات القادرة على الامساك بزمام الحكم في بلدانها. كل ذلك تغير مع بدايات الخمسينات وسقوط الملكية الأغنى و الأهم وقتها في كل المنطقة، الملكية المصرية، وبداية الظاهرة الأهم في كل تاريخ السياسة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين: جمال عبد الناصر (وهو موضوع المقال القادم في هذه السلسلة).