في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
علاقة المشروع الناصري بالولايات المتحدة الأمريكية هي الأهم في كل العلاقات الدولية لنظام جمال عبد الناصر ولتيار السياسة العربية الذي أخذ من تجربته.
أولًا، لأن صعود جمال عبد الناصر وبداية مشروعه توافقا مع خروج الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كالقوة العظمى الأولى في العالم. وثانيًا، لأن تداعيات العلاقة كان لها تأثيرًا مهولًا على كل العلاقات الامريكية-العربية منذ أواخر الخمسينات وإلى نهايات القرن العشرين.
العلاقة بدت بما يبدو سريالية في السياسة.
من ناحية الولايات المتحدة، كان هناك عمل مخابراتي في كل الشرق الأوسط قاده عدد من أهم رجال وكالة الاستخبارات الامريكية منذ بدايات تواجد الوكالة في المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكان من النتائج الأولى لهذا العمل توقع انهيار الملكية المصرية ووضع تصور أن المرحلة القادمة (وقتها) في السياسة العربية ستقودها المؤسسات العسكرية في عدد من الدول العربية. وكانت تجارب من ذلك النوع قد بدأت فعلًا في سوريا.
وكان التصور الأمريكي أن ذلك النوع من الحكم يتوافق مع دخول أمريكا المنطقة في إطار دفاع عام عنها ضد توسعات الشيوعية العالمية، وهي وقتها قوة اجتماعية عالمية كبرى، بدت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية قريبة من الوصول للحكم في عدد من الدول الغربية.
ذلك التصور جعل الولايات المتحدة ترى في جمال عبد الناصر احتمالية ضابط يمثل طموحات الطبقة الوسطى أن ترتقي لأعلى السلم الاجتماعي وأن تُسيطر على مجتمعها، وتحميه من الشيوعية. و في هذا التصور مثل هذا الرجل هو حليف طبيعي لأمريكا. ومن المؤكد ان هذا التقدير الأمريكي كان متأثرًا بتقييمات استخباراتية بريطانية وقتها رأت الخطر الحقيقي على عدد من الأنظمة العربية قادم من ثورات شعبية متأثرة بالفكر الشيوعي. (وقد ثبُت أن ذلك التقييم كان بعيدًا عن الصحة).
من ناحية جمال عبد الناصر، كانت هناك رومانسية في تصور الولايات المتحدة الأمريكية كدولة وكنظام سياسي. وكان جزء من ذلك متأثرًا بأن التجربة الامبراطورية الأمريكية كانت محدودة (بشكل رئيسي في نهايات القرن التاسع عشر) وبعيدة عن الشرق الاوسط (تقريبًا تمامًا في آسيا). كما أن الولايات المتحدة، بغناها الاسطوري، بدت وقتها مستغنية عن منطقة كانت مازالت ثرواتها البترولية غير واضحة الحجم والأهمية. ومع كل ذلك، وقتها (في بدايات الخمسينات) كان العالم بأسره ما زال غير عارف او فاهم للسياسة الأميركية التي كانت وقتها مازالت بعيدة وراء المحيطات.
لكن سريعا ما تلاشت الرسومات السريالية غير الواضحة، وظهرت تقديرات أمريكية لعبد الناصر وتصورات لعبد الناصر عن امريكا - وكانت التقديرات والتصورات داعية للقلق من الناحيتين.
من الناحية الأمريكية، ظهر بسرعة أن جمال عبد الناصر شديد البعد في تصوراته وطموحاته عن تلك لمجموعات الضباط التي عرفتها المخابرات الاميركية في منطقة الشام. عبد الناصر ظهر بوضوح كرجل لا يريد لبلده الخروج من الامبراطورية البريطانية لكي تدخل في إطار أمريكي. وبالرغم من أن عددًا من أهم المتابعين الامريكيين وقتها للشرق الأوسط أُعجب بعبد الناصر، إلا ان أساليب عمل الدول الكبرى - و بالذات الامبراطوريات - لا تتغير بمجرد إعجاب بعض مفكريها بشخصٍ ما. ولذلك فإن اختلاف التقدير الأمريكي لعبد الناصر كان معناه بداية اختلاف السياسات، من اللون الأخضر الداعي الى السير والمجاراة الى اللون البرتقالي الداعي الى النظر بهدوء والترقب.
أيضًا من ناحية أمريكا، بدا بسرعة - خاصة بعد النجاح الكبير في معركة السويس في ١٩٥٦ - أن مشروع جمال عبد الناصر يتلاقى مع طموحات عملاقة في كل المنطقة العربية، كما أن هناك تعاطف معه واصل الى نواحي كبيرة في آسيا وأفريقيا. وكان مؤدى ذلك أن بدأت الولايات المتحدة في النظر للمشروع الناصري على أنه حركة أكبر كثيرًا من مجرد آمال التحرر من السيطرة البريطانية - وكان ذلك داعي حذر.
بالاضافة إلى ذلك، رأت الولايات المتحدة من البداية - في نهايات الخمسينات - أن هناك اختلاف جوهري داخل إطار القومية العربية، بين ناصر وبين الملكيات العربية (وقد كان ذلك موضوع مقال سابق في هذه السلسلة)، ودفعت تلك الملاحظة - وهي شديدة الصحة - الولايات المتحدة الى رؤية المشروع الناصري على أنه يحمل احتمالية خطر على حلفائها الرئيسيين في المنطقة، وهم ملكيات الخليج الحاكمة لأهم مناطق تصدير البترول في العالم.
وأخيرًا فان التوجه الاشتراكي للنظام الناصري في الخمسينات، ثم تحوله في بدايات الستينات إلى اشتراكية حازمة، جعلاه أيديولوجيًا نقيضًا للفكر الأمريكي.
مع كل تلك العوامل كانت هناك نقطة صغيرة ولكنها مهمة، وهي أن جمال الحياة في القاهرة والاسكندرية في مرحلة الملكية كان قد بدأ في التراجع مع نهايات الخمسينات وبدايات الستينات، وكان رونق مصر في العصر الذهبي لليبراليتها (في النصف الاول من القرن العشرين) قد بدأ في الذبول بعد تغير الإطار العام من مخملية ما كان قبل سقوط الملكية إلى شدة - وأحيانًا فجاجة - ما جاء بعدها. و كانت من أهم نتائج هذا التغير بدايات الخروج الكبير للجاليات الأجنبية. كل ذلك جعل القوة الأمريكية التي كانت وقتها في بدء دخولها للشرق الأوسط تعزف عن القاهرة والاسكندرية، مُفضلة بشكل رئيسي بيروت ذلك الزمان (وكان للدخول الأمريكي هناك، بهدوء وتحت السطح، تداعيات كبيرة، ولكن تلك قصة أخرى).
كان هناك أيضًا أسباب نفور من ناحية جمال عبد الناصر.
أولها أن أول ما أرادته أمريكا من عبد الناصر بعد تمكنه من الحكم في مصر كان قبوله الدخول في حلف دفاعي عن الشرق الاوسط على غرار حلف شمال الاطلنطي. وقد كانت الفكرة قديمة، عرضتها أمريكا (من خلال بريطانيا) على مصر اثناء حكم الوفد في ١٩٥٠، وقد تردد الوفد لأن مصطفى النحاس باشا (زعيم الوفد ورئيس الوزراء المصرى وقتها) رأى أنها قد تفرض على مصر أعباء عسكرية لمعارك بعيدة عن مصالح مصر المباشرة (وقد عاش الرجل المرحلة التي كانت فيها مصر معبأة بشكل كبير لمساعدة العمل العسكري للحلفاء اثناء الحرب العالمية الثانية).
جمال عبد الناصر ذهب أبعد كثيرًا من النحاس. عبد الناصر لم يكتف برفض فكرة الحلف، ولكنه ذهب إلى معاداتها علنية - ولعل جزءًا من ذلك كان لتوجيه لكمات سياسية لأنظمة عربية - خاصة ملكية - كانت خلافاته معها بدأت تظهر.
الراجح - لديَ انا على الأقل - أن جمال عبد الناصر رأى في فكرة الأحلاف تقليلًا من زعامته الصاعدة وقتها - لانه وحده في تيار القومية العربية، خاصة بعد معركة السويس في ١٩٥٦، كان الزعيم الأول بفارق مهول عمن بعده، بينما في أي حلف تقوده الولايات المتحدة الأمريكية هو واحد من عديدين كلهم يأتون بعد السيد الأمريكي.
كان هناك أيضًا حساب استراتيجي أبعد عبد الناصر عن أمريكا - ذلك أن العالم في نهايات الخمسينات كان يرى أمامه بدايات الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة وبين المعسكر الشرقي تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي. ووقتها كانت نتيجة الحرب الباردة بعيدة عن الحسم، بل إن بعض الحسابات (الخارجة من دور بحث وفكر أمريكية) قدرت وقتها أن للاتحاد السوفيتي ميزات مهمة في ذلك الصراع العالمي. ولذلك كان صعبًا وقتها المراهنة على نصر أمريكي، خاصة لنظام اراد تحقيق ثورة اجتماعية داخل بلده وما تصور أنها أمته.
مع هذه العوامل فإن صراعات جمال عبد الناصر مع بريطانيا (وقد كانت موضوع المقال السابق في هذه السلسلة) ومواجهته غير المباشرة مع فرنسا (من خلال الدور الكبير للنظام الناصري في مساعدة الثورة الجزائرية) جعلته يبدو كمواجه للمعسكر الغربي بشكل عام. وبالرغم من ان الولايات المتحدة الأمريكية كانت عن قصد بعيدة عن محاولات الإمبراطوريات القديمة الحفاظ على وجودها - إلا أنه يبقى أن الولايات المتحدة كانت تراقب مجهود المشروع الناصري ضد حلفائها وأركان معسكرها، وتقدر الاتجاهات الفكرية لذلك الذي يواجه. وكانت التقديرات أنه ومشروعه على الضفة الأخرى من أي تحالف او اتباع للولايات المتحدة.
كان هناك أيضًا - كالعادة في السياسة الدولية - عامل شخصي. وهو أنه بالرغم من تقدير معقول من الرئيس الأمريكي ايزنهاور لجمال عبد الناصر، وبالرغم من نوع من الفهم من الرئيس كنيدي للطموحات القابعة في قلب فكرة القومية العربية وقتها، فان رؤية الرئيس ليندون جونسون لجمال عبد الناصر كانت شديدة السوء. وكان في تلك الرؤية تأثير مصالح بترولية أمريكية عرفت العالم العربي جيدًا ولكن من زاوية رؤية تنظر من الخليج وليس من الشام أو شمال أفريقيا. ومن هناك، ومن منطلقات المصالح البترولية، فان جمال عبد الناصر بدا خطرًا. و كان للنفور الشخصي لجونسون من عبد الناصر تأثير كبير على رؤيتة إدارته للمشروع الناصري.
لكن النفور، و إن كان نابع من عوامل في الحساب و التفكير، ليس محرك حاسم للحسابات الاستراتيجية. ذلك المحرك كان في علاقة المشروع الناصري باسرائيل، و ذلك موضوع المقال القادم من هذه السلسلة.