مقال للشيخ سلطان بن أحمد القاسمي، رئيس مركز الشارقة الإعلامي بإمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
جميع أسلحة العالم لن تنجح في اقتلاع فكرة من رأس حاملها. فالفكرة تتجاوز ذاتها وفرديتها وتصبح جماعية وأكثر قوة إذا ما قوبلت بالعنف، بل إن بعض الأفكار تتغذى على العنف لتنتج العنف المضاد خصوصاً تلك التي ليست مجردة من بعدها الثقافي، أو وحيدة ومعزولة في ذهن شخص واحد بل مدعومة بمنظومة وعي كامل تحمله الجماعات التي تتلقى نفس التوجيه ونفس الثقافة من نفس الجهة.
ولم تعد الأفكار والمفاهيم والأيديولوجيا حكرا على النخبة كما كانت قبل ثورة الاتصال والمعلومات، بل أصبحت ملكا للجماهير التي نراها تتشارك نفس الأفكار حول موضوع بعينه رغم تباعد المسافات وسطوة الحدود الجغرافية مما زاد من خطورة تسلل الروايات المضللة إلى الوعي الجماعي والهيمنة عليه.
في سنوات الحرب الباردة تحول العالم إلى ساحة صراع بين منظومتين من الأفكار والمفاهيم والثقافات تمثل كل منهما روايتين رئيسيتين، رواية المعسكر الشرقي من ناحية ورواية المعسكر الغربي من ناحية ثانية، واستخدم كل منهما ما استطاع الوصول اليه من وسائل نقل الأفكار والمفاهيم والنظريات والتوصيفات للجمهور بما يخدم توجهاته الاقتصادية والأيديولوجية والسياسية.
ولاحظنا في تلك المرحلة كيف تراجع دور القوة العسكرية لصالح دور الرواية والإعلام والاتصال الحكومي في حسم وتجاوز الكثير من الأزمات التي كادت أن تودي بالعالم لو لجأ المعسكران إلى الأسلحة التقليدية في حسمها، وخير دليل على ذلك أزمة خليج الخنازير عام 1962 أو ما عرف حينها بأزمة الأسلحة النووية الروسية عندما نشر الاتحاد السوفيتي أنذاك صواريخه الباليستية في كوبا ووضع المدن الأميريكية الرئيسية تحت مرمى النيران.
وبعد أن استنفر الطرفان كامل قوتهما، تدخلت وسائل الاتصال الحكومي من الطرفين لنزع فتيل أزمة كان من المقدر أن تغير مسار البشرية جمعاء نحو الأسوأ.
لقد أثبتت هذه الحادثة تفوق الاتصال الحكومي ووسائل الإعلام كخيار وسلاح فعال على الأسلحة التقليدية وكامل منظومتها من جيوش وعتاد. فبعد حربين عالميتين كلفت البشرية ملايين الضحايا، صار العالم أكثر قناعة بأن الأسلحة عاجزة عن ترويض الأفكار وإخضاعها، تماماً كما عجزت عن ترويض إرادة وثقافة الشعب الياباني الذي هُزم عسكرياً في الحرب العالمية الثانية ولكنه احتفظ برؤيته وسياساته وثقافته التي مكنت اليابان أن تصبح نموذجاً ضخماً للدولة الحديثة المتطورة.
ومع ازدياد وانتشار وسائل نقل الأفكار والمفاهيم والروايات وتعميم الثقافات، ازدادت حدة الصراع الثقافي، وتحول العالم إلى ساحة اشتباك بين روايات مختلفة وثقافات مغايرة او متناقضة في بعض الأحيان، ما زاد من خطورة تسلل روايات مغلوطة إلى عقول البشر بمختلف جنسياتهم ودياناتهم كما نشاهد اليوم.
ما يجب قوله هنا، أن الصراع الثقافي بين روايات مختلفة، ليس سهلاً، بل قد يكون أكثر صعوبة وتعقيداً من الصراع العسكري، ولكن نتائجة حتماً أكثر ديمومة وأكثر عمقاً واستقراراً إذا حُسمت لصالح الرواية التي تنحاز للسلم ضد الحرب، وللحوار ضد القتل، وللتنمية في مواجهة الجوع والفقر، تلك الرواية التي يجب على الحكومات تبنيها كواجب ومسؤولية أخلاقية لتخليص البشرية من هيمنة الأفكار الضالة.
التحدي الماثل أمامنا اليوم، هو القيام بواجبنا تجاه الجمهور وتوفير الإجابات العلمية والمنطقية حول مجمل الأسئلة المطروحة على طاولة المرحلة، وتعزيز المفاهيم المحورية التي تحدد مكانة ودور الإنسان وفي مقدمتها مفاهيم الانتماء والمواطنة والشراكة الحقيقية في صناعة مستقبل جماعي مزدهر. إن بقاء هذه المفاهيم مبهمة سيؤدي إلى غياب السلطة ليس بشكلها الرسمي فقط، بل في كونها الإطار المعنوي والمظلة الحامية للكل الشعبي والحاضن له والمحقق لطموحاته، وغياب الانتماء الفردي لهذا الكل يدفع البعض إلى التفتيش عن كيانات بديلة، كي تقوم على حمايتهم والتعبير عنهم على قاعدة المعاداة للمجتمع الذي فشلوا في الاندماج فيه وربط مصيرهم بمصيره.
إن مهمتنا القادمة كرواد إعلام واتصال حكومي تقوم على استشعار هذه المستجدات في ساحة الصراع، وفهم طبيعة أدواته الجديدة التي حلت محل الكلاسيكية القديمة، علينا أن نتسلح بالفكرة في مواجهة الفكرة، وبالرواية الموضوعية في مواجهة رواية الهيمنة، وبالمفاهيم الجماعية والقيم السامية في مواجهة مفاهيم التطرف والانغلاق، هذه المفاهيم إذا توضحت بشكل جلي من خلال رواية متينة وصادقة ستغلق نوافذ الشر وتضيئ الأماكن المظلمة في النفس البشرية ما يجعل الأولوية والغلبة لقوة المنطق في مواجهة منطق القوة.