هذا المقال بقلم مصطفى النجار، عضو مجلس الشعب السابق، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN
حكم تاريخى خطير أصدرته المحكمة الادراية العليا بإحالة 3 مسئولين بالوحدة المحلية باحدى قرى محافظة المنوفية للمعاش وتأجيل ترقية 14 آخرين لمدة عامين من تاريخ استحقاقها بعد تحقيقات النيابة الإدارية بشأن إضرابهم عن العمل وتعطيل سير المرفق عن أداء مصالح المواطنين كما وصفتها النيابة.
احتوت حيثيات الحكم على عبارات توجب التوقف والتأمل لخطورتها البالغة، لكن أخطر ما فى حكم الإدارية هو إقحام أحكام الشريعة الاسلامية كمبرر لمصادرة حق الاضراب للعمال والموظفين فى اجتهاد فقهى أصولى اختار ما يدعم اتجاها عاما تعيشه مصر من التضييق على الحريات وتعطيل الحقوق تحت مبرر حماية المصلحة العامة.
تقول الحيثيات (الاعتصام لا يعد مظاهرة ولا اجتماعا ولا تجمهرا وإنما هو في حقيقته إضراب وذلك لانقطاع بعض العاملين عن أداء أعمالهم وعدم مباشرتهم مهام وظائفهم دون أن يتخلوا عن تلك الوظائف - أحكام الشريعة الإسلامية استنت قاعدة درء المفاسد تقدم علي جلب المنافع، وقاعدة الضرر لا يزال بمثله، وأنه إذا كان الإضراب يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمتعاملين مع "المرفق العام"، فإن الشريعة الإسلامية لا تبيح هذا المسلك لما فيه من إضرار بالمواطنين - أحكام الشريعة الإسلامية لا تجيز الإضراب إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير، أو إذا كانت المصالح التى يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر، أو إذا كانت المصلحة التى يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة - إضراب الموظفين العموميين جريمة جنائية - طاعة الرؤساء تعتبر العمود الفقري في كل نظام إداري - إذا كان الإضراب يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمتعاملين مع الجهة الحكومية فإن الشريعة الإسلامية لا تبيح هذا المسلك ليس بما فيه من إضرار بالناس فحسب بل لأنه يعد تمردا على السلطة الرئاسية رغم أن طاعة الرئيس واجبة).
هذا المقال لا يهين الحكم القضائى ولا من أصدروه ويؤكد على احترامه للقضاء بشكل عام رغم أى اختلافات مع ما يصدر عنه خاصة فى الفترة الماضية ، لكنه يتناول القضية من منظور سياسى – حقوقى نظرا لخطورته البالغة على مجريات فلسفة التعاطى مع مثل هذه القضايا فى مصر المرحلة المقبلة ويمكن رصد هذه النقاط :
أولا : الاستناد على أحكام الشريعة الاسلامية وأصول الفقه الاجتهادية فى إصدار حكم فى مسألة تخص الحقوق والحريات أمر ينذر بالخطر الشديد لأن الاستناد الى اجتهاد وليس نصوص شرعية قطعية واسقاط الاجتهاد على واقع شديد التعقيد يضع الشريعة الاسلامية فى مساحة من الاتهام كسالبة للحريات.
ثانيا: استحضار أحكام الشريعة وتأصيل ما نريد تأصيله ليناسب المناخ العام الذى تحياه مصر الأن من تضييق منافذ التعبير عن الرأى وتجريم الاحتجاج المشروع هو أمر كارثى يمكن أن يستحضره أخرون فى زمن لاحق ليمارسو باسم الدين أشد درجات القمع والتضييق على الناس والتدخل فى حياتهم الشخصية حتى لو كانت نمطا احتجاجيا او سلوكا مظهريا بل قد نصل لتجريم الفكر يوما باسم حماية الأديان وتطبيق أحكام الشريعة.
ثالثا : لا يمكن نظر قضية خاصة بالحقوق والحريات من منظور قانونى فقط دون الوضع فى الاعتبار البعد السياسى والاجتماعى بالاضافة الى البعد الدستورى الضامن لحق الاعتصام والاضراب، والبعد الدولى الذى تلتزم فيه مصر بالمعاهدات الدولية التى وقعت عليها ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفيه نصوص صريحة على حق العمل وفق ظروف عادلة وحرية تكوين النقابات وتنظيم الإضراب، والاستناد على عبارة (مالم تخالف الشريعة الاسلامية) ليس مقنعا لأحد - فى مسائل ذات بعد سياسى مباشر - لتجميد هذه النصوص التى صارت قانونا داخليا بمجرد التوقيع عليها.
رابعا: استمرار تجريم الاحتجاج السلمى بمختلف صوره (تظاهر واعتصام واضراب وغيره) والذى لا يمارس فيه عنفا ولا ارهابا هو دعاية مجانية وترويجا لأصحاب المنهج العنيف الذى كفر بالسلمية ويدعو الناس لممارسة العنف للحصول على حقوقهم سواء كانت سياسية او اقتصادية اجتماعية، فمن الذى يريد أن يدعم هؤلاء؟
خامسا : العمال والموظفون لا يقومون بالتظاهر والاعتصام والاضراب إلا اذا سُدت كل الأبواب فى وجوههم من أجل تحسين أوضاعهم وتلبية احتياجاتهم المشروعة سواء فى القطاع العام أو الخاص والتعامل مع هذا الاحتجاج لا يصح أن يكون أمنيا أو جبريا بقانون يجرم تعبيرهم عن همومهم وآلامهم (لو ارتاح الناس ما اشتكوا فكيف نضن عليهم بحق الصراخ؟)
سادسا: لسنا دعاة فوضى ولا معطلين للإنتاج لكننا مع حق الناس فى التألم وابداء الشكوى طالما مستهم الضراء وأوجعهم الظلم والتهميش مع تأكيد الأطر السلمية للاحتجاج وتقنينها من خلال تشريع متوازن يحفظ حقوق العامل ويحمى مصالح صاحب العمل.
توصيف اضراب الموظفين العموميين كجريمة جنائية اعتمادا على أحكام الشريعة الاسلامية يُدخل مصر لمرحلة جديدة من البعد عن مدنية الدولة ومصادرة الحريات وإهدار الحقوق وتكميم الأفواه، وإذا كان من يدعمون هذا الاتجاه يتخيلون أن هذه خطوة للاستقرار فالحقيقة أنها خطوة للانفجار والانهيار الذى لا تُحمد عقباه، اكفوا الناس بحياة كريمة فإن لم تستطيعوا فلا تستكثروا عليهم حق الصراخ والتألم.