مقال حول علاقة الدين بالسياسة.. "عدم استئناس المستحيل يجعل الممكن مستأسداً"

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
مقال حول علاقة الدين بالسياسة.. "عدم استئناس المستحيل يجعل الممكن مستأسداً"
Credit: Coope/BIPs/Hulton Archive/Getty Images

هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

عنوان المقال مقولة فلسفية صارت مثلاً وهي تنطلق من صراع الافراد والشعوب لصنع وتحقيق مصيرهم فالبلدان بعد الثورات أو في المراحل الانتقالية تضع تقييماً لما يمكن تحقيقه والذي يعد تحقيقه صعباً واخيراً المستحيل تحقيقه وبالطبع تبدأ بالممكن وصولاً للمستحيل مروراً بالصعب. وإذا كان تقييمها خاطئاً ووضعت المستحيل في مكان الممكن أو العكس هنا يقع الارتباك ويصعب عليها الانجاز بل تتحول نتيجة الاخفاق في تقييم مشاكلها وقضاياها وترتيبها الخاطئ لأولياتها إلى دولة فقيرة متخلفة غير قادرة على الإبداع والحركة والتطور، وسأقدم هنا مثلين الأول لإنسان فرد والآخر لدولة.

 اما الفرد فهو طه حسين الذي فقد بصره بسبب فقر وجهل اهله بالعلاج الصحيح لعينيه لكن طه حسين الطفل لم يعتبر أن قدره أن يعيش عاجزاً فاشلاً ينتظر عطف المبصرين عليه كمعظم المكفوفين؛ الذين يعرفهم اولئك الذين وقفوا أمام العمي في عجز كامل كمستحيل يستحيل تجاوزه والانتصار عليه، ولم يحاولوا حتى استئناسه واستراحوا لقبول الامر والتعامل معه كمصدر للرزق السهل بالشحاذة أو لأنشطة يمكن أن يقوم بها المكفوفون مثل قراءة القرآن أو القداس أو اذا كان الصوت جميلاً فيغني تواشيح أو تسابيح أو يلعب موسيقى، اما طه حسين فقد قرر أن يستأنس المستحيل وان يكون افضل من كل ذي عينين. هو هنا ولتلاحظ-عزيزي القارئ-انه لم يقهر العمى او الظلام كما وضعه كمال الملاخ عنواناً لكتاب عنه "قاهر الظلام" لكن استأنسه وتجاوزه فصار عميداً للأدب العربي والأدباء العرب، وعادة اسأل تلاميذي بعد استعراض كتب طه حسين من فيكم يعرف أن طه حسين لا يقرأ ولا يكتب؟ فتظهر معالم الدهشة عليهم أول وهلة ثم ينتبهون ويتذكرون انه أعمى ويضحكون فرغم علمهم المسبق بأنه كفيف لكنهم لم يتعاملوا معه اطلاقاً على هذا الأساس لقد انساهم طه حسين عجزه بتفوقه عليهم وعلى اقرانه وعلى أساتذتهم فعندما استأنس المستحيل امتطي الممكن فسبق كل المصريين في عصره.

أما الدولة فهي بلدنا مصر وبعد ثورة يوليو حدد عبد الناصر ما يريد تحقيقه وكان بمثابة المستحيلات بناء جيش وطني قوى وبناء ديمقراطية سليمة وبناء عدالة اجتماعية وذلك للقضاء على الفقر والجهل والمرض. ولقد حقق عبد الناصر العدالة الاجتماعية بالإصلاح الزراعي ومجانية التعليم في محاولة للقضاء على الجهل وبنى السد العالي ومصانع عديدة لتحديث مصر. لكن الخطأ الذي وقع فيه عبد الناصر والذين أتوا بعده هو انهم لم يلحظوا ان هناك خطراً داهماً على أي وكل انجاز وهذا الخطر يمكنه ان يدمر أي وكل شيء وهو "الفهم الخاطئ" للدين الذي يؤدي إلى التطرف، وقد كان له ضحايا كثر قبل الثورة وبعدها وتعرض عبد الناصر نفسه لمحاولة اغتيال الا انه رأى الحل أمنياً فقط. وكانت رؤيته انه من السهل القضاء على التطرف واعتبر ان هذا ممكناً وليس مستحيلاً، وتبعه في ذلك السادات ومبارك وهذا خطأ كبير في التفكير المنهجي وفي ترتيب الأولويات؛ فبالنسبة لمنهج التفكير التطرف ينتسب للدين وبالتالي ليس من السهل اقناع اتباعه بتركه عن طريق السجن او التأديب لأنه عقيدة داخلية روحانية ربانية؛ فهو يحتاج لتعليم ديني مقابل لما في ذهنه يكون مقنعاً وعصرياً وليس من المؤسسة الدينية التابعة للدولة ومن علماء يثق فيهم الشباب ضحية التطرف وهذا ما لم يحدث.

أما من ناحية الأولويات فكان يجب أن يكون هذا الامر على قمة أولويات الرؤساء كمستحيل عليهم ان يستأنسوه لانهم مهما كانت إنجازاتهم عظيمة فان التطرف سوف يدمرها تماماً او على الأقل يفرغها من مضمونها وهو ما حدث مع عبد الناصر؛ حيث اتهم بالعلمانية والشيوعية وان هزيمته عام 1967 كانت بسبب ترك المصريين لله ولدينهم، وقد هزمنا من دولة دينية شعبها متمسك بدينه وبناء عليه عاد المصريون للعبادة وظهرت السيدة العذراء في كنيسة الزيتون لتشد أزر المصريين جميعاً، وفي عبور الجيش العظيم لقناة السويس في حرب أكتوبر 1973 كانت الملائكة تعبر فوق رؤوسهم وأمامهم لتحميهم والسحاب يكتب في السماء "لا اله الا الله محمد رسول الله"، وكان السادات يتحدث دائماً عن قدرته على كبح جماح القوى المتطرفة وانهم تحت نظره دائماً لدرجة انه تحالف معهم بعد ثورة الخبز عام 1977 ليقضوا على الطلبة اليساريين في الجامعة، وهكذا كان ينظر اليهم تحت بند الممكن الذى من السهل احتوائه بالأمن او بالحوار، لكن انتهى هذا التصور باغتياله على أيديهم.

 اما مبارك رغم كل هذه الدروس سار على نفس المنوال وقام بالتعاون معهم بشرط الا يتطلعوا للحكم وقامت ثورة 25 يناير واكتشف مبارك والمجلس العسكري أن التطرف الديني اجتاح الأزهر والمدارس والجامعة فقد رفع تلاميذهم علم القاعدة عليهم، ليس هذا فقط بل اكتشفوا ان هذا العملاق اصبح طرفاً في معادلة الحكم بعد الثورة وبمباركة أمريكا وأوروبا طبقاً لنظرية الفوضى الخلاقة والمرتبط بها مشروع الشرق الاوسط الكبير؛ الذي سيتشكل نتيجة هذه الفوضى ويضم مع الدول الحالية ايران وتركيا وإسرائيل وهم الذين سيقودون المنطقة لان الدول العربية فشلت في ذلك. وكانت الخطة ان تقدم مصر720 كم مربع من سيناء لتصبح مع غزة دولة فلسطين لتحقيق حل الدولتين، وقد رفض مبارك هذا الحل وكان لابد من رحيله وتم الضغط الأمريكي على المجلس العسكري ليتعاون مع الإخوان ليصلوا لحكم مصر لأنهم سيتعاونون في حل المشكلة الفلسطينية.

ووصل الاخوان للحكم وهكذا تحول الذي كان رؤساء مصر يضعونه تحت بند "الممكن" القضاء عليه بسهولة إلى بند "المستحيل" القضاء عليه وذلك لانهم لم يدركوا من البداية خطورته وانهم عليهم ان يستأنسونه وهو في طور النمو قبل ان يصبح وحشاً مستأسداً، وهكذا انطلق الوحش متعدد الرؤوس ليخرج رأساً من الموصل ويستولي على معدات جيش العراق وانضم اليه ضباط الجيش الحانقين على أمريكا التي سرحتهم ثم أخرج رأسه الأخرى من سوريا، واستولى على ارض ونفط في البلدين وباع النفط بواسطة وسطاء إلى دول كثيرة، ثم ظهرت رأس ثالثة في ليبيا وتمدد الوحش في معظم البلدان العربية في سيناء مصر وفي السعودية. ومع ظهوره بدأ استكمال الصورة باتفاقية النفط بين أمريكا وإيران لتكتمل الصورة وتصبح الدول الفاعلة في المنطقة إسرائيل وتركيا وإيران، والعقبة الوحيدة امام استكمال المخطط هي مصر خاصة بعد سقوط حكم الإخوان، ونحن اليوم في موقف لا نحسد عليه فأمريكا لم تعترف بثورة 30 يونيو حتى اليوم ولا تتعامل مع السيسي وسوف تقيم مؤتمراً لمحاربة الإرهاب بأمريكا دعت له الاخوان من كل الدول العربية وسيفتتحه أوباما وهذا يعني انه يراهن على الاخوان حتى الان.

 ومن المتوقع ان تتم صفقة بين أوباما وبوتين والستة الكبار بعد القضاء على داعش وما يماثلها من جماعات بواسطة روسيا ثم يتم حل القضية الفلسطينية بتبني حل الدولتين المتفق عليه عالمياً. لكن ما زال الامر غامضاً من نحو سيناء لكن هناك بعض الاقتراحات والبدائل يتم دراستها خاصة ان الثمن كان 200 مليار دولار تحل جميع المشاكل بضربة واحدة. كل هذا جاء علينا لأننا لو كنا أدركنا وقيمنا "المستحيل" مستحيلاً ولم نستهن به واستأنسناه منذ البدء لما تحول اليوم الى وحش مفترس يصعب استئناسه أو اصطياده.