كاتبة المقال: رانية فهمي، نشر هذا المقال بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، الآراء الواردة هنا تعكس وجهة نظر الكاتب ولا تعبر بالضرور عن رأي لـ CNN.
تداخل أمامي فيلم "سر طاقية الإخفاء" عندما كان عبد المنعم إبراهيم يرتدي الطاقية لكي لا يكون مرئيا ويفضح بها الزيف في عالمه، مع مقولة آبائنا التي شبنا عليها "البلد دي يا ولاد بلد شهادات: أهم حاجة تجيبوا الشهادة الكبيرة ثم انطلقوا في الحياة زي ما انتم عايزين."
تذكرت الفيلم والمقولة وانا اشاهد أطفال المؤسسة التي كنت اعمل بها- والتي تقوم علي رعاية الاطفال المعرضين للخطر وخاصة في ظروف الشارع- في حفل التخرج الرائع لأطفال الحضانة التابعة للمؤسسة وهم يقذفون بقباعاتهم الكرتونية السوداء الي السقف أسوة بالخريجين "الكبار"، ويصرخون بأعلي صوتهم ويتمايلون علي أغنية عبد الحليم "الناجح يرفع ايده، هيييييه". فرحة الأطفال انهم سيدخلون المدرسة القريبة من مقر المؤسسة فرحة معدية ملأتني وقتها زهوا وتمنيت لو امتدت ذراعي لتحتضن كل هؤلاء الأطفال مرة واحدة. ومررت بعينيّ عليهم جميعا وانا مبتسمة في سعادة ولكن سقطت الابتسامة عندما سقطت عيني علي خمسة اطفال اكتسى الحزن ملامحهم وهم لا يشاركون أقرانهم في الحفل. سألتهم: مالكم، مش فرحانين انكم حتسيبوا الحضانة ولا مش عاجباكم الحفلة؟" قالت لي شيماء ذات الخمس سنوات وقد اغرورقت عينيها بالدموع: انا قاعدة في الحضانة مش رايحة المدرسة. وجاءني نفس الرد من الأربعة أطفال الآخرين. كنت أعرف السبب كما أعلم أن هذا هو حال ستة بنات في سن المدرسة الابتدائي والإعدادي ولكنهن أيضا لسن ملتحقات بالمدرسة.
***تذكرت أيضا كيف كنا نهرول علي مستشفيات طلبا لعلاج أحد هؤلاء الأطفال وترفض المستشفى تسلمهم. ولا يشفع لهم سنهم أو مرضهم أو توسلاتنا بدخولهم المستشفى. لماذا كنا ولازلنا نقف عاجزين علي تقديم ابسط الحقوق لهم: حق الوجود؟ السبب ببساطة أنهم غير مرئيين من الدولة كأنهم جميعا عبد المنعم إبراهيم يرتدون طاقية الإخفاء ولكن هذه المرة هي طاقية العجْز وليس القوة. لماذا؟ لأننا بالرغم من اننا نتشدق بأننا بلد "شهادات" الا أن هؤلاء الأطفال ليس عندهم الشهادة التي في نظري هي الشهادة الكبيرة وهي شهادة دخولهم للعالم: شهادة ميلادهم التي بدونها يصبح الطفل غير مرئي، لا يحق له تعليم أو علاج أو وجود. لماذا هذه الغصة والمرارة كلما تذكرت محاولاتنا المستميتة في مطالباتنا بوضع جملة: "لكل طفل الحق في أوراق ثبوتية" في دستورنا حتي أضيفت في دستور 2014 وكنا في غاية النشوة والانتصار اننا اقتنصنا هذا الحق لأطفالنا في أعلي وثيقة قانونية وهي الدستور؟
نظرت بكل أسي الي أطفالنا. كل منهم له قصة: رحمة "ساقطة قيد" أي لها أب وأم متزوجين بعقد زواج رسمي ولكن الأب لم يسجلها في السجل المدني في الوقت القانوني فسقطت من سجل المقيدين في الحياة. وعلمنا أن أمها حاولت تسجيلها بمفردها وكان معها إثبات زواج رسمي ولكن فوجئت بالموظف يشترط وجود الأب بشخصه أو وجود أحد اقربائه من الدرجة الاولى وهذا لتشككهم في أن رحمة ابنة للزوجين سوياً خوفاً من قضايا الإرث وهذا بمخالفة القانون. لمياء وإبراهيم ومنصور أيضا "ساقطي قيد" ولكن أهلهم متزوجين بعقد عرفي وحالتهم مثل رحمة.
أما رشا وعزة وهبه وهالة فمشكلتهم أعوص: فبالرغم من انهن ملقبات في بيت الإيواء بعزة "اللذيذة" ورشا "الشقية" وهبه "الهادية" وهالة "الفنانة" فلقبهن خارج المؤسسة "مجهولات النسب": رشا مجهولة النسب للأب أي أن أمها معترفة بها ولكن ليس لها أب معروف لكثرة علاقات الأم. عزة لها أب ولكنه غير معترف بها ولا يوجد أي إثبات لزواجه من أمها. أما هبة وهالة فحالتهما الأسوأ فهما مجهولتي النسب للأم والأب ولم تستطع المؤسسة إيجاد أم أو أب لهما. ولكن بنت أخري هي ياسمين لها حكاية مختلفة تماما عن بقية أقرانها: ياسمين جاءت "البيت"، كما كان يحلو لي تسميته، بنفسها ولا نعرف حتي الآن إذا كان هذا اسمها الحقيقي واكتشفنا من جلسات lالتفريغ النفسي أنها تخشي ان تقوم المؤسسة بإعادتها لأبيها الذي كان يقوم بضربها وهتك عرضها. ففضلت أن تكون بلا هوية.
***كيف نعتذر لأطفالنا؟ هل نقول لهم: إنظروا الي "عمو" المستشار القانوني للمؤسسة وكذا "عمو" المحامي اللذان يأتيان الي المؤسسة وهما يتصببان عرقا من كثرة الجهات التي يذهبا اليها علي مدار أشهر وربما سنوات حتي يستطيعان استخراج الشهادة الكبيرة لكم وبعدها يمكنكم خلع طاقية الإخفاء والنظر في عيون موظف المدرسة والمستشفى والنادي وغيرهم والقول بكل ثقة: نحن هنا؟ ...هل سيفهمون أي كلمة إذا قلنا لهم، خاصة في حالات مجهولي النسب، أن "عمو" يضطر الي استعطاف عشرة مصالح حكومية حتي يفوز بورقة الكمبيوتر المختومة؟ أن الإدارة القانونية للمؤسسة تقوم بعمل عشرة خطوات في أكثر من جهة حكومية (إدارة المؤسسات بوزارة الشئون الاجتماعية، قسم الشرطة، النيابة، السجل المدني، مكتب الصحة، إدارة البحث الجنائي بمديرية الأمن، اللجنة القضائية لاختيار الأسماء، ومصلحة الاحوال المدنية) حتى تتمكن من اصدار شهادة الميلاد وهذا يصعب من الإجراءات ويؤخر استصدار الشهادة ويكلف المؤسسة وقتاً ومجهوداً وأموالاً مما يجعل بعض المؤسسات تعزف عن استخراج أوراق ثبوتية للأطفال المقيمين لديها؟
وبعد كل هذا ليس مضمونا أبداً ان يأتي الينا "عمو" بالشهادة. إذا انا نفسي كنت ألهث وراء المستشار عندما يسرد كل هذه الإجراءات التي لا أستطيع استيعابها أصلا، فمن أين نبدأ مع الأطفال؟ هم يريدون فقط حقهم في أن يكونوا.
بالرغم من كل التعقيدات كنت دائما أقول: لابد من حل، لا يمكن لمؤسسة رعاية أن تقدم كل ما تستطيع تقديمه من خدمات للأطفال بدون أهم خدمة والا فلتغلق كل المؤسسات أبوابها. قدم المستشار القانوني الحلول وهي في غاية البساطة: بالنسبة لرحمة وهي ساقطة قيد، تقوم الأم بتسجيلها علي مسؤوليتها وتقول انها المبلغة عن الطفلة ولا يعتد بهذه الشهادة في حالة المواريث ويرفع هذا الحظر عن الشهادة في حالة ذهاب الأب أو أحد أقربائه من الدرجة الأولى ويؤكد أن الطفلة لهم وهذا لعدم ترك الطفلة دون شهادة ميلاد. حتي بالنسبة للمياء وإبراهيم ومنصور الذين تزوج أهلهم زواجا عرفيا، تتبع الأمهات نفس الخطوات في الحالة الاولى ولا يعتد بهذه الشهادة في المواريث إلا في حالة وجود عقد تصادق على زواج مع وجود الآباء أو أحد اقربائهم من الدرجة الأولى.
في حالة رشا وعزة مجهولتي النسب للأب: تسجل الأم طفلتها بنفسها مع كتابة إقرار ان هذه الطفلة نتيجة علاقة غير شرعية ولا يوجد أب يعترف بها وتضع لجنة من السجل المدني إسم الاب من اقتراحها ويكتب بند في السجلات انه لا يُعتد بهذه الشهادة في حالة المواريث حتى لا تحدث مشاكل في حالة تشابه الإسم المقترح مع إسم شخص حقيقي موجود.
وفي حالة هبة وهالة وياسمين وهن مجهولات النسب للأم والأب: نقترح عمل مكتب مختص داخل السجل المدني يختصر كل هذه الإجراءات المعقدة ويكون هو الجهة المختصة التي تلجأ اليها دور الرعاية لاستصدار الأوراق الثبوتية وهذا المكتب يقوم بالتعامل مع جميع الجهات حتى تصدر الشهادات ويقوم المختص من الجهة التي تريد استصدار الشهادة بالمتابعة و يوضع بند أيضاً في الشهادة انها غير معتد بها في المواريث حتى لا تحدث مشاكل في حالة تشابه الاسم المقترح مع اسم شخص حقيقي موجود.
***وبعد، فهل يأتي اليوم الذي نستطيع فيه كمجتمع وليس فقط كمؤسسة رعاية أن نبشر أطفالنا مثل هبه وهالة ومنصور وغيرهم: لقد خلعنا عنكم طاقية الإخفاء، انتم هنا ونحن نراكم؟