تقرير: نزار الفراوي
الرباط، المغرب (CNN)- ساعات قبل حلول القافلة الوافدة من المطار مصطحبة معها الحاج وحرمه، نُصبت الخيمة التقليدية، واستعدت الذبائح لتسيد الموائد هذا المساء، وبدأت نسائم الوليمة تشتم عن بعد من مطبخ الليلة الاحتفالية. رشت الباحة الطينية بالماء بعد تنظيفها، وسادت حالة الترقب في " الدوار" الذي يبعد عن الرباط بحوالي 80 كيلومترا، في قلب منطقة زعير القروية. عند باب البيت، تتلقى العائلة دعوات بسلامة العائدين.
تتوارد أصوات طبول ومزامير قبل أن تبدو القافلة التي تضم سيارات وعربات ( بيك أب). تتوقف عند الخيمة، فتعلو الزغاريد ويلتف الأهل والجيران بالعشرات، معانقين العائدين مهنئين بالعودة.
طقوس استقبال الحاج العائد لها طعم خاص في المغرب، قد يكون بعضها عائدا الى التقاليد الصوفية الروحية المتجذرة في الوجدان العام، وكذا للذاكرة الراسخة للرحلات الحجازية المغربية عبر التاريخ، بما تعنيه من مشاق جسيمة نتيجة البعد الجغرافي ووجع الفراق الذي كان يدوم عاما وأكثر.
هم أحفاد ابن بطوطة، الذي بدأ رحلته بالتوجه الى الديار المقدسة، قبل أن يهيم في خرائط العالم القديم. من هذا التراث، توطدت طقوس ومراسيم توديع واستقبال الحاج التي تجمع في مفارقات غريبة أحيانا بين الاحتفالية الشعبية والمقامات الروحية.
في الباحة المقابلة لمدخل المحطة الثانية لمطار الرباط- سلا، التي تجهز بالكامل لتنظيم حركة الحجيج في هذا الموسم الديني، يصطف المئات من الأفراد، من كل الشرائح العمرية. تدل علامات تسجيل السيارات في المرآب أنهم أتوا من مناطق مختلفة، لاستقبال أقاربهم العائدين من الرحلة الكبرى، حاملين أشواقهم ومتطلعين الى لحظة لقاء يبدد ما ترسب لديهم من رعب وتوتر بعد توارد أخبار مأساة منى، التي جعلتهم يضعون أيديهم على قلوبهم.
ولعل مأساوية حادثة منى أضفت خصوصية على استقبال هذا العام، حيث حج القريب والبعيد للاطمئنان على سلامة الحاج وتهنئته أولا بأداء الفريضة المبرورة وثانيا بالنجاة من الحادثة الأليمة التي مازالت تصدر بيانات ضحاياها واحدا بعد آخر. وهكذا تحول الفضاء المقابل للمطار الى سوق بشرية موسمية طافحة باللحظات الانسانية.
على الحاجز الأمني الطويل الذي أقيم على بعد أمتار من مدخل المحطة الجوية، التي يمنع في مثل هذا الموسم الدخول اليها، كانت السيدة الأربعينية تحمل باقة ورد، تمسك طفلتها الصغيرة ومعها عدد من أفراد العائلة. يرن الهاتف، تصيح سعيدة مرحبة مهللة. توقفت الطائرة القادمة من السعودية ووصل الوالد بخير. تمر لحظات كأنها ساعات في انتظار العائد الذي ما ان يظهر في البوابة، مرتديا جلبابه المغربي الأبيض، وعمامته التقليدية، حتى تسارع رفقة نساء العائلة التي حلت هنا الى رفع الصوت بالزغاريد والصلاة على النبي.
بصوت متهدج، تقول السيدة فاطمة الوافدة من مدينة الخميسات ( 80 كلم عن الرباط) : " انه استقبال بطعم خاص. عشنا لحظات عصيبة بعد سماعنا بحادثة منى. لم نتذوق لذة عيد الأضحى، خصوصا أن هاتف الوالد لم يكن يرد لساعات طويلة".
وعلى مدى موسم الحج، وتوازيا مع كثافة التجمهر أمام المطار، انبثقت سريعا حركة تجارية متنقلة، على قارعة الطريق، بعضهم يعرض أدوات لتزيين السيارات التي تستقبل الحجاج وتنقلهم الى ديارهم في مواكب أشبه بمواكب العرس، على غرار بيع أشرطة بألوان بيضاء وخضراء، وبعضهم الآخر يعرض باقات الورود بينما يطلب آخرون ود زبائن عابرين قد يطيب لهم الاستعانة على اوقات الانتظار بكؤوس قهوة أو بتناول حلويات أو سويتشات خفيفة مقابل دريهمات عديدة.
أما مراسم الاستقبال الحقيقية فتبدأ في الديار. وان كانت المظاهر الاحتفالية تنحسر شيئا فشيئا في المدن وبخاصة في أحياء الطبقات الوسطى والميسورة، فإن البوادي والقرى مازالت تفرد لحجاجها احتفاء خاصا، تحضر فيها الولائم والأمسيات القرآنية وأحيانا حتى وصلات الموسيقى التقليدية في أجواء يتداخل فيها الروحاني بالطقوسي الاجتماعي.
يقول الحاج عبد العزيز الذي يستعيد قواه بعد رحلة دينية لا تخلو من مشاق: "هنا، لا فرق لدينا بين قرابة الدم وأهل القرية أجمعين. كان الوداع معهم بليلة قرآنية في خيمة تقليدية مفتوحة للجميع، وكان علي أن أستضيف كل من ودعني، في ليلة إطعام وذبائح، وأن أقدم لكل من أتى مهنئا هدية ولو رمزية من البقاع المقدسة".
لا تخرج الهدايا عموما عن كؤوس من ماء زمزم وسبحات وسجاد صلاة وتمور، يتسلمها المرء، عربون ود ومورد " بركة"، من مقام روحي عظيم، لكنها بالنسبة للميسورين تتسع لتشمل عطايا ثمينة للأقربين، من أثواب رفيعة وبخور وحلي. في الذاكرة الجماعية الشعبية، السعودية ليست فقط أرض الأماكن المقدسة، بل مركزا تجاريا للحرير والذهب والمسك. لذلك يتحرق أهل الحاج شوقا لوقت فتح الحقائب.
في المجالات القروية والشعبية، ليس الحج مجرد أداء لشعيرة دينية، بل علامة وجاهة اجتماعية يتعين احاطتها بما يلزم من ترتيبات استقبال واحتفال تجسد موقع " الحاج" في محيطه. لذلك يمتزج القدسي بالطقوسي، فتوجه الدعوة لمجمع القراء والذاكرين كما لفرق الموسيقى الشعبية بالطبل والمزمار، التي تواكب " دخلة" العائد من بلاد الحرمين. يعلق أحدهم على مظاهر البذخ والاسراف في حفل استقبال العائد من الحج : " لا يهم كم أنفق صاحبنا في هذا اليوم. فلقب الحاج سيلازمه طيلة حياته".